د. علي خليفة - أبعاد الرموز في مسرح نجيب محفوظ

(١)
كتب نجيب محفوظ ثماني مسرحيات فقط، وكلها مسرحيات قصيرة، ونرى فيها أجواء من الغموض، وتكثر فيها الرموز والدلالات، كما أن الحوار قصير جدا فيها - باستثناء مسرحية مشروع للمناقشة فحواراتها طويلة -.
وكذلك من السمات البارزة في هذه المسرحيات أن الشخصيات قليلة في كل مسرحية منها، وأن الشخصيات فيها نماذج، وغالبا ما تظهر كل شخصية منها من خلال صفة معينة تحددها من أول المسرحية لنهايتها، ورسم نجيب محفوظ لشخصياته في مسرحه بهذا الشكل يخالف رسمه لها في رواياته، فهي في رواياته شخصيات نامية، ولها أبعاد مختلفة، وغالبا لا نتعرف على كل أبعادها إلا مع نهاية كل رواية منها.
وأعتقد أن طبيعة الغموض والتجريد في مسرحيات نجيب محفوظ هي التي جعلت رسمه لشخصياته بهذا الشكل الذي تبدو من خلاله نماذج، وليست شخصيات نامية لها أبعاد مختلفة، كما أن قصر هذه المسرحيات لم يسمح بكشف كل أبعاد هذه الشخصيات، ونموها.
وأرى أن كل مسرحية كتبها نجيب محفوظ تحمل سمات من التجريب في الكتابة، فقد كان مع إقدامه على كتابة كل مسرحية منها يظهر ما فيها من محاولاته لصبغها بلمسات التجريب.
(٢)
ويمكن أن نعد مسرحيات نجيب محفوظ مسرحيات رمزية، فإننا نرى فيها كلها رموزا ودلالات، بما في ذلك مسرحيتاه ذات الطبيعة الواقعية منها، وهما مسرحية الجبل، ومسرحية مشروع للمناقشة.
ومسرحية الجبل ترمز إلى أن تحقيق العدالة التامة على الأرض أمر مستحيل، كما أنها تشير إلى أن أي أشخاص يحاولون في أي مجتمع أن ينصبوا من أنفسهم قضاة لمحاكمة من أفلت من سلطة القانون - سيتحولون بعد ذلك لجلادين وقتلة، وسيصيبهم الشك في أنهم حين ممارستهم هذا الأمر قد تجاوزوا تطبيق العدالة التي كانوا يأملون في تطبيقها إلى أن صاروا مجرمين يقتلون شهوة في القتل.
وفي مسرحية يميت ويحيي نرى الرمز فيها في أن الهزيمة للأفراد والأمم لا تعني النهاية، وأنه يمكن أن يتم النصر لمن تعرض للهزيمة والإهانة بالعمل والكفاح، وعدم الخضوع للملذات والمتع وكل ما يضعف الهمم عن مواجهة الأعداء.
ومسرحية التركة تعطينا تصورا للمؤلف عن ثلاث سبل للإنسان للشعور بالسعادة، فالولي فيها يرمز للسعادة التي تتحقق عن طريق التقرب إلى الله عز وجل وإشعار النفس بالطمأنينة من وراء ذلك، والمهندس في هذه المسرحية يرمز لرجل العلم الذي يرى أن سعادة الإنسان في هذا العالم تتحقق بالتقدم العلمي الذي سيجلب له وسائل الرفاهية، والشاب العربيد ابن هذا الولي يرى أن السعادة في هذه الحياة تكون في الانغماس في الملذات مهما يكن مصدرها، ويترك المؤلف للقارئ اختيار الطريق الذي يراه يصله بهذه السعادة التي يبخث عنها ويرغب في الوصول إليها، ومع ذلك لا يخفى في هذه المسرحية تفضيله للسبيل الأول الذي يمثله الولي في البحث عن السعادة في هذه الحياة.
ومسرحية الشيطان يعظ ترمز إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يصحح أخطاء الماضي حتى لو تم بعث هذا الماضي من جديد له؛ ولهذا رأينا مدينة النحاس في هذه المسرحية التي هلكت وهلك أهلها منذ عشرين ألف سنة - قد كرر أهلها أخطاءهم بعد أن أعيدت الحياة لهم ومدينتهم؛ ولهذا استحقوا الهلاك مرة أخرى.
وترمز مسرحية إلمهمة إلى أن الإنسان - في الغالب - لا يستفيد من الإشارات والتحذيرات التي تأتيه في حياته؛ لتنبهه لقرب موته أو لضرورة إقلاعه عن أعمال معينة منافية للأخلاق.
ونرى الرمز في مسرحية النجاة في أن سعي الإنسان للنجاة من الخطر كثيرا ما يكون هو السبيل له للوقوع في ذلك الخطر.
ومسرحية المطاردة ترمز إلى أن الإنسان كثيرا ما يحاول تجاهل الزمن، ولكن الزمن يكشف له عن متابعته له، وعن تأثيره الواضح عليه، كما أن المؤلف يرمز في هذه المسرحية إلى أن صراع الإنسان مع الزمن ينتهي دائما بانتصار الزمن على الإنسان.
ومن هذه الرموز التي نراها في هذه المسرحيات نرى أن الجانب الوعظي غالب عليها؛ مما يدل على أن المؤلف يقف فيها من المتلقي لها موقف المرشد الناصح، وهذا يدل على علو الجانب القيمي عند نجيب محفوظ، ورغبته في تقديم النصح للمتلقي من خلاله.
وأيضا تدل هذه الرموو في مسرح نجيب محفوظ على أنه يحب أن يكون لمسرحياته أبعاد غير السطح البارز منها؛ وبهذا يشعر المتلقي لها بسعادة كبيرة؛ لأنه يشارك المؤلف بذل الجهد في استكشاف ما بين سطور حوارات هذه المسرحيات، وبهذا لا يكون تلقي المتلقي لها سلبيا، بل يكون تلقيه لها تلقيا إيجابيا بالكشف عن أبعاد الرموز فيها.


د. علي خليفة





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى