د. أحمد إبراهيم الباسوسي - شاعر

جثى على ركبتيه، نظرات عيونه البنية مصوبة بقوة نحو سجادة الغرفة القديمة المتربة، كأنما يستحضر قصيدة جديدة تهتز شطراتها وصورها أمامه. الغرفة فارغة من المحتويات سوى طاولة صغيرة فوقها جهاز كمبيوتر قديم ديسك توب مفتوح يتصل براوتر لاستحضار الانترنيت والتواصل مع العالم، وكاتيل لعمل الشاي أو غيره من المشروبات الساخنة، والكثير من الكتب ملقاه بعشوائية في الاركان، وخلف الجدران، ومخدة صغيرة يسند عليها رأسه اذا احتاج للراحة والتمدد وسط الغرفة. الصورة العامة لمظهره تتسق بجلاء مع غرفته التي تأويه منذ خمسة عشر عاما وقد تشققت الجدران طولا وعرضا، وبهت لون الطلاء وتحول من الازرق السماوي الى اللون الأبيض الكالح، اتسعت الحفر في أركان الأرضية المبلطة بالموزايكو القديم، واصبحت مرتع ومأوى مريح للنمل والصراصير وكافة الحشرات الصغيرة. هذه الغرفة كان قد خصها لنفسه زمان بغرض القراءة والكتابة والتأمل ولقاء الاصدقاء، موجودة في الطابق الأرضى لمنزله الخاص بعيدا عن دوشة الأولاد وحفاظا على خصوصية أهل بيته. الجلباب اللبني الفضفاض الذي يدثره تبرز من تحته فانلة داخلية بيضاء ناصعة تكشف مبلغ الترهل الذي اصاب جسده خاصة بعد ان تقاعد من وظيفته الحكومية واستمرأ قعدة البيت والحملقة معظم الوقت في شاشة الكمبيوتر وتعاطي المشروبات الساخنة والطعام. البطن تكورت واتسعت امامه، منطقة الصدر بدأت تضيق بالاسمال التي يرتديها، ومع ذلك مستمر في التأمل والأمل باصدار ديوانه الشعري الأول. زوغان عيونه ارتد الى الخلف هذه المرة، فر مع السنين حيث كانت الأناقة والشياكة والشباب العفي، اعتاد امتطاء السياسة والثقافة والتمرد والمغامرة، يقرأ كثيرا، يسمع كثيرا، يذهب الى الندوات ويتحدث بعنفوان وثقة محتجا على الأوضاع السائدة معظم الوقت. يذوب تفاعلا مع الاحداث بجدية دفعته الى مصاف المثقفين في محيط اصدقائه ومعارفه. أيقن ان لابد ان يكون له دور في تغيير فكر وفلسفة العالم، وانه على وشك نظم قصيدة عالمية سوف يتحدث عنها الناس طويلا. يمضي في الشارع مختالا بوسامته وصورته التي نجح في رسمها في اذهان الناس. فور التخرج وكان في فورة شبابه قال لنفسه ولآخرين من حوله ليزيل عن عيونهم غشاوة الاندهاش " مؤقت، هاشتغل في التدريس لحد ما شوف صحيفة كبيرة اعمل بها". يسستقيم واقفا بصعوبة وسط الغرفة، لم يعد يستطيع التحكم في مفاصله بسهولة هذه الأيام، اصطكت عيناه بسقف الغرفة لكن لم ترى شيئا، دار حول نفسه في مكانه، كأنما نسى الشيء الذي أقامه فجأة من جثة ركبتيه، استمر في الدوران في الفراغ كأنه داخل مدار الزمن، لم يتغير شيء، رأى نفسه غارق في مستنقع التدريس الذي يبغضه في المدارس الحكومية، لكن الحلم الذي ملك رأسه لم يتزحزح، صراعاته الصغيرة مع زملائه المدرسين والموجهين ومديري المدارس شابها الكثير من الاستعلاء والترفع، خسر كثيرا في معاركه البدائية من أجل الحصول على مكاسب من الدروس الخصوصية أو استمالة الطلاب لشخصه. صموده وائتناسه بأحلامه القديمة في تغيير وجهة حياته في اتجاه الشعر والفلسفة وتبوأ مكانته الطبيعية تحولا الى داعم قوي لأنفاسه لكي تستمر في حركتها على الرغم من العطب الذي اصابها فأضطروا الى حمله لأطباء القلب مرة فتحوه وأخرى تركيب دعامات. لم تكن أحلامه مجرد هواجس أو كوابيس يحملها بين ضلوعه التي شاخت بعد ان خدعته الأيام وسرقته، بل كانت كل شيء يملكه في عالمه الذي يحياه، حارب كثيرا داخل رأسه من أجل تغيير العالم، بوصلة احلامه الليلية والنهارية كانت في اتجاه خلق عالم يسوده العدل والكفاية ويتساوى فيه الجميع ويختفي منه الظلم. عالم شفاف، نقي من دون عنصرية أو تعصب، عالم يشارك الجميع في ادارته وفي أحلامه أيضا. لكنه الآن لايزال مستمر في الدوران حول نفسه في فضاء الغرفة الضيقة يحملق في السقف، يفتش عن افتتاحية القصيدة التي اقلقت رأسه واخرجته من أيامه التي ضاعت منه، لا يزال بعد ان تخطى عقده السابع يحلم باصدار ديوانه الأول، ويرى نفسه رغم كل شيء قادرا على انجاز أحلامه التي فرمتها تروس الواقع الصعب الذي لايصمد أمامه الشعراء. وحين عثر على ضالته وطرقت الافتتاحية باب رأسه انتفض بخفة مدهشة، جلس امام الكمبيوتر، انسابت مفردات القصيدة الجديدة تخرج بسلاسة من رأسه وتدقها أصابعه التي يبسها الزمن لتظهر أمامه على الشاشة مثل ضوء مريح مفعم بالفرح والراحة والنشوة. لم يتمهل قليلا لكي يراجع أو ينقح النص الذي خرج لتوه، فرحته كانت طاغية، بسرعة كبس زر الارسال حتى يتلقاها اصدقائه في جروب الشعراء من الجهة المقابلة، ينتظر بشغف لايك أو شير أو تعليق يرمم به بناية أحلامه التي أوشكت على الانهيار والسقوط. غادر طاولة الكمبيوتر بنفس الخفة التي أتى بها اليها، كبس زر الكاتل، انشغل في صنع كوب من الشاي الأحمر الغامق بالسكر زيادة. رأسه ما تزال منشغلة هناك عند اصدقائه الافتراضيين الذين يتوقع منهم لايك أو شير أو تعليق، لا يزال يحلم بصدور كتابه الأول، ولايزال يحلم بامكانية تغيير الناس والعالم، ولا يزال متصالح مع نفسه ومع الآخرين، لا يغضب ابدا، متسامح وساخر رغم ضيق الحال، وصعوبة الأحوال وعقوق الابناء والاخوان.
يوليو 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى