د. كاميليا عبد الفتاح - الجِدَّة.. قصة قصيرة

• أخرجت الجدَّةُ من صدرها علبتها الصفيح الصغيرة الملأى بالتبغ ، أخرجتْ من ( جِزْلَانها ) الكبير علبة الصفيح الثانية الملأى بورق ( البَفْرَة ) ، بدأتْ تلفُّ سجائرها في صمتٍ مهموم ..
كان من المألوف في الصعيد أن ْ تتصدر النساءُ مجالسَ الرجال وتجمعاتِهم ، وأن تشدّ دخان ( الجوزة ) وتلف السجائر ، وأن يعلو صوتُها على صوت الرجال حين تتقدمُ في العمر ويتوقفُ رحمُها عن إعمار الأرض ، فتنبتُ لها بعضُ شعراتٍ في الذقن والشارب .. ويتحولُ صوتُها من الأنثوي النَّاعم الشجّي إلى الذكوري اليابس الغليظ ، ويتدلى ثدياها المترهلان كجلدتي ماءٍ زهدَ السَّقَّاءُ فيهما فأسندهما إلى الجدار . فحين ترحلُ الأنثى من الأنثى ، ويبرزُ فيها ما يُدنيها من منطقة الرجال ، يُنصتُ الرجالُ لعقلها ويوسعونَ لها بينهم مُعلنين عن ثقتهم في مُدخراتِها من الحكمة والتجربة والبصيرة . وقد تعدَّى عمرُ الجدَّة كلَّ هذا إلى الحدّ الذي أصبحتْ فيه تأمرُ بالرجل المخطئ من رجال العائلة - ورجال الحي كله - فيُؤتى به بين يديها لتصفَعَه على وجهه – على ملأٍ - وتطردَه من المجال الذي تصلُ إليه عيناها فيهيمُ على وجهه أعمىً كمن أُهدرَ دمه . ..
** تراصَّ الرجالُ بجوار بعضهم بعضا بجلابيبهم وكوفيَّاتهم الصوفية الداكنة ..بدَوا شبيهينَ بقوالح الذرةِ المُتراصَّة فوق ( منقد ) الفحم الذي تجمَّعوا حوله يواجهون به ارتعاش عروقهم . مدَّوا أيديهم نحو القوالح المُشتعلةِ يتعجَّلون الدفءَ كأنهم يتسوّلون عفوَ ضريحٍ . لم يكن يقطعُ الصمتَ الذي جثمَ على رؤوسهم إلَّا تلك الطقطقاتُ التي تشكو بها القوالحُ فعلَ النار فيها ، و همهماتُهم المرتعشة التي يرجون فيها الإسراعَ إلى منازلهم قبل أن تدهمهم نيرانُ منتصف هذه الليلة ..
تبادلوا النظراتِ في ضيقٍ صامتٍ ..تطايرت إشاراتُ أيديهم بالتساؤل والتذمّر وهم يراقبون الجدَّةَ في رهبةٍ ورجاءٍ ، في الوقتِ الذي جلست فيه على حشيتها المصنوعة من قشّ الأرز وقد أمسكتْ بعصاها المنتصبة في الأرض في ترقُّبٍ مهمومٍ ، بدتْ فيه بقامتها العملاقة - وقد أحاطها وهجُ ( المَنْقَد ) بهالةٍ حمراء – جبلًا راسخا من النار ...
*** سحبتْ نفسًا طويلًا من سيجارتها ..نفخت في عيون الرجال دُخانَها ..حرص كلٌّ منهم على ألَّاَ يطرفَ بعينه ، لكنّ لسعة الدخان ألهبت مآقيهم ، فأشعلتها احمرارًا ، فبدوا وكأنهم أشباح هذه الليلة .
قامت الجدّةُ فجأةً ، ققاموا ، وقد تعلقت عيونُهم بفمها وعينيها ، رأوها تُحدقُ بترقُّبٍ فيما كانوا يخشون : النخلة الشاهقة التي تتوسَّطُ البيوت ، عربة الكارو التي تقفُ بحصانيها أمام بيت " أبو العلا " ، بيت " رايقة " ، ( زريبة ) العجول التي ماتت فيها جمالات.. ، شرفة " نحمدو " .
تبادل الرجالُ النظراتِ في إشفاقِ من يوشكُ على التوسُّل وتقبيل الأيدي ، لكنّ نظرة سريعة إلى وجه الجدة الذي ازداد صرامةً ، وعينيها اللتين أخذتا تضيقانِ في غضبٍ وتوعّدٍ ، وكفِّها الكبيرة التي أخذت تدقُّ الأرضَ بالعصا كأنها تريدُ أن توقظ كلَّ من في الأرض .. نظرة واحدة إلى كل هذا أطبقتْ فمَ الرجال ، فأخذ بعضهم يحرّك قدميه في المكان و ( يَكْحَص ) في الأرض . صاحت في غضبٍ :
ستنتظرون هذه الليلة معي ، ستواجهون ، و على الخائف أن يدخل داره ويختبئ في حضن زوجته .
تململ الرجالُ في وقفتهم ..تناثرت منهم كلمات تحمل ُبعضَ الاعتراض وكثيرا من الخوف ، أسكتتهم بدقِ عصاها . قالت في سخرية ، وهي تشدُّ كلَّ واحدٍ منهم من شاربه ، وتلكزُه في صدره : شواربٌ هذه أم ضفائرٌ كالتي تربّيها نساؤكم منذ ولادتهنّ لترتقوها سُلُّمًا دافئًا مُعطَّرا بحنّاء شبابهن حتى تصلوا إلى منبع الكحل وأسرار عيونهنّ الظمأى للعشق والحياة ..؟!
تنهّدت في حُرقةٍ ، سحبت نَفَسًا طويلا من سيجارتها ، نفخت دخانَها في عيون الرجال .. قالتْ وهي تربِّتُ في إشفاقٍ على ضفيرتيها اللتين بدا شَيْبُهُما نهارا يتصدى لعتمة الليل : لم يدرين أنّكم ستسحبونهُنَّ من ضفائرهنّ حين تشتعلُ أجسادكم بشهوةٍ عجزتم عن إشعالها في أجسادهن ..وحين يشتعلُ غضبُكم الطالعُ من العجز والكِبر ، فتعيثون في جسد النساء ضربا . ضفائر النساء رفيقُهنّ الخائن .
أجابها أحدُهم وهو يشيرُ لها بيديه أن تهدأَ :
لو تمكنّت منَّا نيرانُ الغضب هذه الليلة ستحرقنا جميعا يا جدّة ..
أجابت في حدّة :
لو كُنّ يملكنَ ما هو أقوى من النار لأحطنكم بها ..
قال آخر : لن يكتفِينَ بهذه الليلة ، سينلنَ منَّا كلّ ليلة حتى يوم الدين ..
- لا بد أنْ يقتصصنَ منكم ، أو يعفونَ عنكم ..
قال أحدُهم وهو ينتفضُ :
- ما دمتِ مُصرّة يا جدة ؛ فلنحملْ أكفاننا .
ضربتْ كتفه بعصاها وقالت مزمجرة :
عمر الجبان رخيص .. وكفن الظالم خسيس .. لكن ليس أمامكم إلَّا أن يكون كلٌّ منكم " قودة " يحملُ كفنه .
هُرع الرجال إلى بيوتهم .. هُرعت إليهم نساؤهم المُتشحات بالسوادِ ، يساعدنهم في ارتداء ثياب القودة ، خرجوا حفاةً يحملون أكفانهم ، وقد ارتدى كلٌّ منهم جلبابًا قصيرًا أسودَ اللون مقلوبًا ، حدّقت الجدّةُ فيهم وهي تدقُّ بعصاها كأنها تُعلنُ الساعة ..
كان صوتُ النار في القوالح يثيرُ رهبة الرجال فيحدقون يمينا ويسارا في ترقّب وإشفاقٍ . وحين انتصفَ الليلُ انبعثت نيرانُ من خمودها من كل اتجاهٍ.. نيرانٌ قديمةٌ هائلةٌ أقبلتْ تركضُ في غضبٍ .
**** أشارت الجدةُ إلى عربة ( الكارو ) التي تقفُ كل ليلة أمام بيت " أبو العلا " – بحصانيها – و التي ينقلُ فيها البهائمَ المذبوحةَ من السلخانة إلى الجزَّارين فيعلقونها في كلَّابةٍ حديدية ضخمة .قالت وهي تشيرُ إلى كومةٍ ملقاةٍ على ظهر العربة :
النار تبدأُ من هنا .. حين تظهرُ جثةُ عدليّة فوق عربة ( الكارو ) ، " عَدْلِيَّة " التي كانت اكتمال َ البدرِ و( رُمَّانة ) الصبايا ، والتي قتلها " أبو العلا " لأنّها أحبّت ..قتلَ ابنته الصغيرةَ حتى لا تُعيّروه بأنه لم يقتلها ، حتى لا يُطرد من مجلسِكم ، حتى لا يُوصف بأنه امرأة ، قتلها حتى يعيشَ بينكم مطمئنا أنه رجل ابن رجل من أصلاب رجال .
لوَّحت الجدةُ بعصاها في الهواء .. قالت وهي تزأرُ :
أنتم استكثرتم عليها أن تحب ، خضتم في شرفها ، اعتبرتموها فزَّاعة تخيفون بها بناتكم ونساءكم حتّى لا يُنصتن يومًا لقلوبهنّ ، تستبيحون روح فتاة أحبّت في طهر وأنتم تركضون أعمارَكُم كلَّها في جسد الراقصات ، تتمرغون في لحم ( الغَوازِي ) .. أنتم من حَرّض ( أبو العلا ) على ذبحها وحَمْلِها فوق هذه العربة ودَفنها في أرض لا يعرفها سوى هذين الحصانين اللذين يصهلان بعد منتصف كل ليلة .
صمتت الجدةُ برهةً .. أصاخت السمعَ .. أومأتْ برأسِها في أسىً ، قالتْ في رهبةٍ وخشوع :
حين تنتفضُ الجثةُ مُقرفصةً فوق العربة ، تشيرُ بإصبع السَّبابة..تَخرجُ من قلبها نارٌ تلفحُ كل البيوت ، فيُهرعُ الحصانان بها إلى حيثُ ذُبحتْ ودُفنت ..إلى حيثُ لا يلحق بها أحد ، يقول بعضُ الشهود إنّ الحصانين يذهبان بها إلى ( البَغدادي ) ، ( الزينية قِبلي ) ، ( الزينية بحري ) ، نجع حمّادي ، الكرنك ، ( قرية الصعايدة ) ، ( البر الثاني ) ، ( الحِبِيل ) ، ( قوص ) ، ( أرمنت ) ، كل القرى ، كل النجوع . ويُقسمُ بعضُهم أنّ الحصانين يقفان عند باب المحطة كل ليلةٍ ، فتقفزُ الجثة وتركبُ العربة الأولى التي تجرُّ القطارَ فيمضي ، يجوبُ بها كل المدن ، كلَّ القرى ، فلا يعرف أحدٌ يا وِلْدَاه أين ذُبحتْ عدلية .. و أين دُفنتْ ..
***** قالت الجِدَّةُ وهي تشيرُ إلى النخلة الشاهقة التي تتوسّط البيوتَ : النارُ تبدأُ من هنا ، تندلعُ في جذع النخلة التي قُتلتْ تحتها " شُوق " وقُتل معها جنينُها الذي لا نعرفُ من منكمُ أبوه ، منْ ألقى بذرته في الظلام ثم قَتله ..!
- يا جدّة : شُوق امرأة مطلقة.. والمطلقّة كالأرض البُور ، بلا حراسة ولا سور .
زأرت وهي تهزُّ كفّيها المفتوحتين في وجوههم وكأنها تهددُ بخنقهم :
أنتم من قتلَ الحارسَ ..أنتم من هدم َ السُّور .
تبادلوا النَّظرات في قلقٍ ، وقد ظنُّوا أنّها تهذي . قالت ، وقد فَطنتْ إلى نظراتهم :
لا تملكون شجاعة الزواج بالمطلّقة والأرملة ، لكن تملكون الفجور الكافي لمراودتهما .تعافون المطلّقة في الحلال ، وتتخذونها كعبةً لحجّكم الوثني ، فإن عجزتم اغتصبتموها كما فعلتم بـ " شوق " .
- الرجلُ منَّا يفكّر ألف مرة قبل أن يتزوج امرأةٍ تحملُ بقايا رجلٍ قديم .
دفعتهُ الجدةُ في صدره ، ألصقته بصُورتها التي انعكست على الجدار ، حُوصرَ في المُنتصفِ بينهما ..بدتِ الجدَّةُ كأنّها تضربه من الأمام ومن الخلف ..قالتْ وهي تنتفُ شعراتٍ من شاربه :
المُطلّقة تئنُّ تحتَ بقاياها : بقايا بيتٍ .. بقايا حلمٍ .. بقايا رحلة .. لكنّكم لا ترونَ فيها إلَّا بقايا الرجل الذي كانت معه يومًا ما ، تتعاملون معها باعتبارها (دِكَّة ) في حجرة الضيوف. لو كان فيكم رجلٌ حقيقي لواجه الرجل القديم ، وأخرجه منها وجلس مكانه .المبارزة فنّ الفرسانِ ، وأنتم قطَّاع طُرق .
أشارت بعصاها إلى النخلة التي بدأ جذعُها في الاشتعال :
تستبيحون المطلقةُ لأنها تبرزُ لكم بمفردها دونَ رجلٍ تحسبون له الحسابا ، أنتم تهابون الرجل الذي تنتسبُ إليه المرأة وإن كان عشيقا في الظلام ، لذلك قتلتم شوق .
ارتفعت ضحكتُها عالية مخيفة :
أو لا تعلمون أنَّ نساءكم مطلقاتٌ مثل شوق ؟!
تململ الرجال ، تناهت منهم كلمة هنا وهناك ، قهقهت الجدةُ بصوتٍ كتغيُّظِ النار :
انشغلتم بالقفز على أسوار المطلقات ، تركتم بيوتكم مهجورةً وأسوارها واطئة بلا حرّاس .
كان كلٌّ منهم يتحسسُ شاربَه في توجّسٍ حين قالت الجدةُ وهي تشيرُ إلى كل بيتٍ من البيوت التي تحيطُ بنخلة " شوق " :
المطلقاتُ يتربّصن بأنفسهن ، وتتربص بهن بقاياهُن .. ترونهن في كل مكانٍ ، تتدلى أذرعهنَ بجوارهن في عجزٍ ، تتطوحُ في الهواء كبندولِ ساعة رملية تحُصي عمرا يمرّ دون شغف دون رواء ، تتطوحُ كحبلِ مشنقةٍ يتدلى بعد أن أدى مهمته المؤلمة .. ترونهنّ في الشرفات شاكيات من اختناق الأنفاس ( يصل إلى أسماع الجدة و الرجال صوتُ امرأةٍ تحاولُ أن تأخذ شهيقًا ) ، تتنهّدُ الجدةُ في ألم : تنزلق إحداهنّ في أفخاخ الغواية التي تنصبونها لهنّ ( تتعالى ضحكةٌ ماجنة لإحداهنّ فينتفضُ أحدُ الرجال وينظرُ إلى شرفة بيته فزعا ) تأوي إحداهنّ إلى النسيان والكمد والقهر ( يرتفعُ صوت امرأةٍ بعدودةٍ حزينة ) تذوي إحداهنّ في زيجة ثانيةٍ لا حياة فيها ، لتلوذ برجلٍ يحميها من أمثالكم من الرجال ( يرتفعُ نشيجُ امرأة وسط البيوت فينظرُ أحدهم إلى جهة بيته متوعّدا ) تنتهي حياةُ بعضهنّ كما انتهت حياةُ شوق : قتيلة تحمل سفاحا ..
****** ارتفعت ألسنةُ النار حتى بلغت ذروةَ النخلةٍ .. تطايرَ منها شررٌ على كل البيوت .. تعالت صرخاتُ النساء من كل جهة .. كانت الجدّةُ تشيرُ إلى كلٍّ صوتٍ بعصاها وهي تئنُّ كالجريح :
هذه صرخة البنت " رايقة " التي أراد أبوها أن يتخلّصَ من إنفاقه عليها فتخلّص منها ، زوّجها من صديقه الكهل الذي ضربها فكسرها لأنها كانت تخطئُ وتناديه ( يابا ) ، وهذه صرخة " جمالات " التي اعتدى عليها أخو زوجها الذي برّأه رجالُ عائلته واتهموا " جمالات " بغوايته ، وساعدوه في حبسها في ( زريبة ) العجول حتى ماتت ، وهذا أنين " نحمدوه " التي لم ينقذها أحدٌ حين قفزت من النافذة فرارا من ضرب زوجها المخمور .
******* توسَّطت الجدةُ المشهدَ وهي تقلّب قوالح الذرة فوق النار المتأججة ..أشارت للرجال أن يقدموا أكفانَهم ، فهُرعوا إلى صراخ كل امرأةٍ ، إلى كلّ نارٍ ، هُرعوا إلى الكومة البارزة فوق عربة ( أبو العلا ) - والتي لم تكن سوى بقايا حيوان ذبيح - هُرعوا إلى جذع النخلة الذي أيقنوا أنه سيتداعى فوق
رؤوسهم بناره العظيمة في لحظةٍ آتية ، هُرعوا إلى النوافذ والشرفات التي اهتزّت من عويل النساء ، هرولتْ أقدامُهم يمينا ويسارا في اتجاه كل البيوت .. لكنهم كلما خَطَوا خطوة صدر من الحصانين صهيلٌ أشبهُ بصرخة امرأة تستغيثُ ..كانت الصرخةُ تثقبُ آذانهم فيلوذون بالجدةِ ، تهزُّ إليها بجذعِ النخلةَ فَتُساقِطُ عليهم نيرانًا عفيّة ، يُهرعون إلى الجدران التي كانت ألسنةُ النيران تنعكسُ عليها كأجسادٍ نسوةٍ ينهضنَ من سُباتٍ قديمٍ .. من بكاءٍ طويلٍ .. ينهضن .. يتمطّين بأذرع عملاقة تحاصرُهم وتنقضّ عليهم ، فيهرعون إلى الجدّة مرة أخرى ..يتحلقون حول عصاها حفاةً بجلابيبهم السوداء التي ظلَّت مقلوبةً كما هي ؛ حيثُ لم تقبل النيرانُ صلحًا ، وأصرَّت كلٌّ صارخةٍ على ثأرها ..
أوقفتهم الجدةُ بنظرةٍ من عينها ، وبإشارة من عصاها ، أوقفتهم في منتصف الطريق بين النيران والدخان ، وما إنْ أزاحتهم من الطريق ، ودخلتْ بابَ البيت الكبير حتى أشرقت الشمسُ وقبَّلتْ ضفائرَ النساءِ اللَّائي ابتسمت لهنّ الجدةُ ، فبرقت عيونهن ببريق الحياةِ ، أخذن نفسًا عميقًا صعدنَ به إلى السطح ، يحملنَ ( مواجير) العجين التي حملنَها على مدار أعمارهنَّ ، وأطعمن زغاليل الحمام ، فاحت رائحةُ الخمير العفيّة ..انبعثَ الهديلُ كالنبض الدافئ في اللحظة التي أزاحت فيها الجدةُ الستائرَ الكثيفة عن النافذة المُطلّة على النخلة التي تتوسّط البيوتَ .. النخلةُ الشامخة التي سهرت ليلة كاملة تطلبُ ثأرها ، والتي تمايل جريدُها الأخضرُ يمينًا ويسارًا كأنه يُلقي تحية الشروق للجَدَّة التي أومأتْ برأسها تردُّ التَّحيةَ بكفِّها الكبيرِة التي انتفضت عروقهُا الخضراءُ فبدتْ شبيهةً بجذر النخلة ...


------------------------------------

* من مجموعتي القصصية " جبال الكحل " ، اتّحاد كتّاب مصر 2020م ، دار ميتابوك للطباعة والنشر ،



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى