د. أحمد الباسوسي - أيام الغياب الخمسة

قامت من رقدتها هذا الصباح موفورة النشاط والحيوية على غير العادة، دخلت بسرعة الحمام، مارست طقوسها من دون عناء أو اهدار للوقت،. لاتزال عقارب الساعة تشير الى تحت السابعة صباحا. أصوات كركبة وحركة غير معتادة لفتت انتباه رجلها الراقد في السرير، اخرجته من اغفاءته. طالع في دهشة منظرها. جالسة على كرسي التسريحة تجفف شعرها المبلول بالسيشوار الكهربائي الذي يحدث صوت موتوره جلبة مميزة. فرك عينيه باصابعه لعل العرض لايزال مستمرا لأحلامه التي صاحبته ليلة الأمس. فركها ثانية وثالثة، انها هي بشحمها ولحمها. ضوء التسريحة المنسكب على وجهها يعكس تحفة جمالية انثوية فاتنة جدا، الوجه دائري، البشرة حليبية مفعمة بالحيوية والجمال والانوثة الطاغية التي تزينها ملامح دقيقة لعينين لبنيتين، وانف وفم وحتى اذنين كأنما تم تشكيلهم لدى نحات عظيم محترف. استغرقت النظرة دقيقتين قبل ان يستفيق من دهشته ويعلنها عن استيقاظه. انها بالضبط الفتاة التي سلبت عقله وقلبه قبل سبع سنوات وهام بها فرحا وابتهاجا، دأب على متابعتها ومطاردتها حتى أدخلها القفص. منذ خمسة أيام غابت داخل نفسها، لم يتمكن أحد من معرفة السر!، اعتزلت كل شيء، أنوثتها التي كانت تتباهى بها، رجلها الذي كان يتيه بها فخرا وفرحا، طفليها الذين لم يمضي على ولادتهم أربعة وخمس سنوات، شغفها بالتحدث ولقاء الصديقات ومتابعة الناس وأخبار العالم على مواقع التواصل الاجتماعي، البيانو القديم الذي منحها اياه ابوها الفنان القديم بعد ان تلمس مبلغ شغفها الجارف بالموسيقى واللعب عليه باستمرار، زياراتها المقدسة اسبوعيا لوالدتها وأبوها والثرثرة هناك بكل أريحية حتى يعود رجلها في المساء ويدخلها السيارة في طريق العودة للمنزل، حتى ذاك الشاب الغامض الذي التقته مصادفة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي واهتزت رأسها لحكمته وآرائه، قبل ان ينفلت قلبها بضربات اضافيه كلما هل عليها وجهه الوسيم الباسم دوما، اعتزلته أيضا. لم يعد لديها قابلية سوى لشيء واحد فقط وهو الانزواء عن العالم والمكوث وحيدة داخل الغرفة المظلمة والبكاء. ارتبك الزوج عندما تأكد ان الأمر ليس مجرد موقف أو حالة طارئة سوف تزول، بل ربما مرض اقتحم حياتهم فجأة، أصبح كل همه اخراجها من عزلتها والحفاظ على حياتها التي تهددت بسبب العزوف عن تناول الطعام والشراب. أيام خمس مرت قبل ان يتحول كل شيء وتتحول الكركبة وصوت السيشوار الى معزوفة موسيقية يهتز لها قلب الرجل الذي قام من رقدته حالا. طالعته بطرف عينيها خلال صورته المنعكسة في المرآة، غمزت له بعينيها وكان شعرها المتدلي على الوجه يكاد يخفيه، تعلم جيدا انه يشتهى منظرها في هذه الصورة. انتفض بسرعة، عاجلها بحضن قوي من الخلف، تركت نفسها داخل صدره مثل عصفور جميل يتلهف للدفء والحب، غاب هو في الحضن والاعتصار، وغابت هي عن الوعي ومرآة التسريحة والسيشوار
حمدالله على السلامة
خرج الصوت منغم بالغنج اللذيذ
على ايه ياحبيبي؟
غبتي عني عدة أيام
أفلتت نفسها من صدره، تقابلت عيونهما، علامات دهشة واستغراب حضرت بقوة، زادت من حسنها وانوثتها، لم يحتمل الأمر، ادارها لحضنه بقوة، رفع رجليها بذراعيه القويين متجها الى الفراش المفتقد لكل هذا الدفئ خلال الليالي السابقة. في الطريق لم يسمح لدهشتها ان تكتمل، ولا لأسئلتها ان تتواصل، بل همس وغنج اللقاء الذي أتى بعد شوق، وفرحة بعد خطر التهديد والفقد، واندماج حقيقي مشبع باعث على الدفئ والأمان بعد ان بات متوقعا ان كل شيء سوف يضيع مع العاصفة التي هبت في ذلك المساء الذي قررت فيه اغلاق باب غرفتها على نفسها والانزواء. في أعقاب هذه الليلة الملتهبة بالحب والغرام مثل ليال سابقة كثيرة خلال شهور الزواج الأولى لم يعد مسموحا لأحد منهم بالحديث أو البحث في سر أيام الغياب الخمسة التي غابت فيها عن الدنيا. لا هي تتذكر هذا الأمر من أصله، ولا هو قرر ان يتحدث في هذا الأمر مع نفسه أو معها أو مع مخلوق آخر في دنياه الواسعة.
يوليو 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى