صابر رشدي - الرئيس سيمرُّ بعد دقائق

قبل الحادثة بأسبوع تقريبًا، كنت هناك، أمرُّ مصادفة. أنظر من نافذة الباص على بروفات العرض العسكري، الذي يجري بهمة، وثمة خاطر يغزوني عند رؤيتي للآليات العسكرية، وطوابير الجيوش، أمام النصب التذكاري للجندي المجهول، هاجس ملح وتشاؤمي. لا أدري ما الذي جعلني أتخيل وقوف دبابة تحديدًا، واستدارة برجها العلوي، موجهة ماسورة مدفعها في اتجاه الجمع الذي سيحضر يوم النصر. ليضغط راميها على الزناد، مطلقًا قذيفة غادرة على المنصة، كان حسًّا تنبئيًّا، ينمو باضطراد، ويتصاعد محروسًا بسحب أكتوبر الخريفية. وكانت مخاوف متأججة تضطرم في صدري.

يوم العرض، كنت في ميدان التحرير، حاولت الصعود إلى كوبري المشاة فمنعني الجنود قائلين: “الرئيس سيمر بعد دقائق”. لاحظت ذلك، بعد انقطاع سيل السيارات من الطريق، كان الميدان خاليًا، وكهرباء تسري في الأجواء. النخبة في السجون، لا حائل أمام قرارات الاعتقال الأخيرة. الشيخوخة، والمكانة التاريخية لا يشفعان لأحد. ذكاء القائد يخونه للمرة الأولى في حياته، ويجعله الخصم الأول للجميع، لا أحد معه سوى رجال الدولة الرسميين، ورؤساء تحرير الصحف الحكومية.

الضباط الكبار، أشاروا لبقية رجال الأمن إشارات معينة باقتراب الموكب، إنها أشد لحظات التأهب، لابد من الحذرحتى يتم عبور اللحظة.

على ناصية شارع شامبليون، شرق المتحف المصري، جاء وقوفي، ناويًا رؤية الرجل. كنت قد رأيته كثيرًا، في أكثر من مكان، وكنا نمر بجوار بيته خفيف الحراسة، دون مضايقة من أحد. كان يقف إلى جواري عدد من المواطنين، يواجهنا جندي مسكين، ظهره للطريق.

لمحت الموكب قادمًا من ناحية كوبري قصر النيل، يسير ببطء، خلف سرب من الدراجات النارية الفارهة. مرت سيارة الرئيس أمام عيني، قريبة من الرصيف، لمحته في داخلها، جوار النافذة، كان حزينًا، شاردًا، لا يبتسم كعادته، تلك الابتسامة الشهيرة. لا يلوِّح للمواطنين بيديه. لم يكن هنا. كان يطفو في عالم آخر، ساهيًا بوجه متجمد، لاينتمي إليه، كان بكامل أناقته، البزة العسكرية الموشاة بالنياشين، المضبوطة تمامًا عليه. شعرت بغصة، وبرياح تعصف صامتة حول كائن منعزل، يتأرجح بين يدي التاريخ والتراجيديا. كنت معلقًا بهواجسي التي تصاعدت مرة أخرى. لا شيء يدوم في هذا الزمن الذي يتحرك بارتجاج، بين الغيوم والمجهول، ودورات السياسة الغامضة.

ــ هذا الرجل سيموت اليوم.

وجدتني أردد هذه الكلمة بقلب خافق، وصوت مسموع على غير إرادتي.


بقلم: صابر رشدي | مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى