عبدالله البقالي - الحديقة المزيفة

هي لحظة تحدث فيها أشباء غريبة . فيها يجالس الجلاد ضحيته،و يربت الكتف نفسها التي لم تبارحها بعد آلام سياطه . و يراقص الظالم المظلوم،و كأن لا ثأر بينهما . و يخفق قلب المعدم طربا على ايقاع معدمه وهو يتقدم به الى المقصلة .لكن كيف يحدث هذا في زمن ما عاد فيه للالتباس مكانا ؟ ..وكيف تختلط الأمو بهذا الشكل الذي لا تصير فيه للألوان و الأقكار أي معنى ؟
قال رفيقي القابع في رحاب حلم قديم : ما هذا الذي لم تجده عاديا في هذا الخبط ؟
قلت : لا أعرف مصدر حيرتي . هل الحياة هي كما اراها , أم أن شيئا ما ينتصب ما بين عيني وما ارى فيمسخ الاشياء و أستقيها مغلوطة ؟..و الا فكيف يجالس العبد سيده و تلفهما لحظة تحجب كل دهور القهر و الاستغلال ؟ وكيف تمتد يدا القاهر و المقهور رافعتان كأسيهما لتقرعانها ويعقبانها بتلك القهقهات التي يندهش لها التاريخ ؟
قال رفيق مستغربا ما قلته : أأقلقك حقا ما رأيت ؟ ماذا تتوقع من عالم خلق فقط ليفرز التباين ؟ ثم هل تتوقع حقا أن تحمل رؤوس سكان المعمور فكرا موحدا ؟ أتظن هذا ممكن ؟ أليس في تفكيرك ضرب من الخيال يصل حد الهبل و الأوها م ؟
قلت معقبا : اسمع يا صاح . صحيح أنه يمكن أن افضل أنا أكل السمك في الوقت الذي تفضل فيه أنت البطاطس , و أن ألبس أنا الجلباب في الوقت الذي تفضل أنت فيه معطفا , لكن عند حد ما نصير أنا و أنت شيئا واحدا يقابلنا الآخر في الجهة الأخرى .
أجاب رفيقي في انزعاج واضح : من هذا النحن ومن هذا الآخر ؟
فكرت للحظات وقلت : أنا و أنت هو هذا الحلم البسيط ..فراشة تبحث عن رحيق في حديقة أزهارها مزيفة . فلا الأزهار فيها رحيق ولا الفراشة قادرة على اكتشاف الزيف . اما الآخر فحلمه هو تلك الحديقة , وهو في حاجة الى أن يظل حلمك في محيط حديقته . و أن حركة جناح الفراشة هو الشئ الوحيد الحي في عالمه الميت , ومتى طارت الفراشة بعيدا صارت حياته اطلالا .
قال صديقي في ضجر : مالي ومال هذا الكلام المبهم الغامض . هلا تحدثت بقليل من الوضوح ؟
ساد صمت طويل بيننا وقلت بعده : أتحب الحياة يا رفيقي ؟
غادر الرفيق جلسته . وقف . فسح لعينيه رحاب المعمور . نظر للأمام و الورا ء . للأسفل و الاعالي ثم استدار جهتي و أجاب : حين أتأمل هذا الكون ...حين اتابع الشمس في غدوها ورواحها .. و الضياء تنطلق غازية التخوم المظلمة , أو مرتدة في مهلة استعدادا لانطلاقة جديدة . حين أرى ضياء القمر . واخضرار الاشجار و اسمع شدو البلابل حين أرى كل هذا و في المقابل أرى الهم يجثم بثقله على صدور الآباء و الامهات , و اليأس يعشعش في عيون الشباب , والمتاهة التي تنتظر الأطفال , و البحر مصر على ان يمتلئ جثثا أنذاك أدرك أن هذا الواقع يشكو من خلل فظيع
قفزت من مكاني وقلت : جناحاك قويتان يا رفيقي . ما الذي يمنع فراشك من التحليق بعيدا عن الحديقة المزيفة ؟
رمقني محاوري بنظرة صارمة مرعبة وقال : ها أنت تود الهروب مع هبوب أولى رياح المعركة . وها أنت تكرر نفس الخظأ القديم . أنا أسألك .أين يكمن الخلل ؟ هل في زيف الحديقة أم في قدرة الفراشة على الطيران . تريد ان تهرب .. تعال .. خذ جناحي . أما أنا فمصر على ان تنبع الحياة من هذه الحديقة المزيفة نفسها .
اندهشت . يقيت للحظات صامتا أتأمل محاوري و أستعيد ما قاله . اقتربت منه اخيرا و قلت : هل لي أن أشاركك هذا الرهان ؟ا
استدلر جهتي و قال : هذا يفرحني كثيرا .
- ما المطلوب مني أن أفعله ؟
- أما أنت فلا اطلب منك اكثر من أن يأتيني كلامك خاليا من الالغاز و الرموز .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى