نبيلة غنيم - بيت مِلك

ظلال متحركة تخايل إدراكه، يداعبه حلمه المتجذر في تلافيف عقله، يبتسم وهو يرسم في خياله ذلك الحلم، بيت واسع تحيطه الزهور، يافطة مكتوب عليها "إبراهيم الطويل" ...

يأخذه الحلم ليرى أطفاله يمرحون في براح البيت، يسمع ضحكاتهم ، يشاركهم اللعب، الابتسامة تتسع ، لا يأفُلها إلا نهيق حمار جاره ،يلقى الجار السلام بصوت جهوري لا يقل عن صوت حماره !!

يعود إبراهيم إلى واقعه، ينفض يديه وجلبابه من التراب، يعلم أن الصفر مهما استطال لن يبنى له بيتاً إلا في الأحلام.

يصب حلمه في رأس صغيره " محمد": البيت يا ولدى، لابد من أن يكون لنا بيت ملكنا ، لن نظل أغراباً في هذه القرية.. البيت يا ولدي.

تأتيه زوجته الطيبة بكوب من الشاي مكللا بنبتة النعناع الفواحة، تجلس إلي جواره، تقرأ رأسه، تقول بنغمة المحبة: ليه شاغل نفسك يا أبو محمد ، أنا عمري حسستك إن البيت ده مش ملكك؟!

يصمت إبراهيم ، يرتشف رشفات قوية من الشاي، يمسك بغصن تخلت عنه شجرته العتيقة ، يرسم علي التراب بيتاً ، تأخذ زوجته "نعمة" الغصن من يده ، ترسم بيتا إلي جوار بيته وتمد جسراً بينهما ، تقول له: حتى لو بنيت بيتاً جديداً .. سيظل موصولاً بهذا البيت.

ينهض إبراهيم ليقبل رأس نعمة فهي التى آوته وغمرته بحبها يوم أن جاء هذه القرية يتيما معدماً.

قبلت يده قائلة: أهداك الله لي بعد وفاة والد ابناي، فكفلتَهم وكنت لهما أباً صالحاً.. الفضل بالفضل يا إبراهيم.

ابتسم إبراهيم لرقتها وضم ولده منها قائلا: محمد سيحقق حلمي إن شاء الله.

تدور الأرض عدة دورات ليكبر الحلم في قلب إبراهيم، مجون الشمس يجعله يهرب من حريقها، يجلس على حافة النهر ينظر إلى السماء وهي تلقى بنفسها في أحضان البحر، يستظل بأقرب شجرة، تأخذه سنة من النوم، يوقظه ولده ليزف إليه بشري حصوله على عقد عمل بالخليج، يتنهد إبراهيم قائلاً : سيتحقق الحلم يا ولدي.

يعود محمد بالمال يضعه في كفيّ والده ليبني البيت، يسافر مرة أخري ليجمع بعضا من المال لتحقيق حلمه هو تاركاً رسالة لوالده؛ يقول فيها : يا أبتِ.. حياتي لا تتوافق مع القرية، لن استطيع العيش في ذلك البيت ، يُصر الأب علي إتمام البيت، يُكحل عينيه بجمال البناء ، سكت قلبه فجأة بين جدران حلمه.

يظل البيت يكافح الزمن، يستقبل ساكنيه من حشرات وفئران باكيا على هجره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى