نهى الطرانيسي - وَوَلَّى دِفْءُ العُمر.. قصة قصيرة

(الظاهر أمام أعيننا، وإن كذّبناه، حان وقتُه)

قدَمٌ تشد من أَزْرِ أختها، تَتَناوَبان صعود الدَّرَج القديم، تشاركهما الأنفاس المتعبة المتلاحقة، عسى تخففُ عنهما، يدٌ تستند إلى الحائط، حاكَ الشقاء تجاعيدها. سيدة في العقد الخامس تدخل شقتها، وبصوتٍ خافتٍ لا يقوى على الظهور: (السلام عليكم يا حاج محمد)، منذ عقد من الزمان لا تملّ من إلقاء تلك التحية، ولا ردَّ يأتيها من تلك الصورة ذات الشريط الأسود في زاويتها، والمعلقة على الجدار المواجه للباب.

بعد تناول رشفة أو رشفتين من الماء البارد تبدأ في تجهيز وجبة الغداء، والقط الرمادي الدائم الزيارة يسيل لعابه منتشيًا بالدخان المشبع برائحة الطعام الطيب، مواؤه لا يكاد ينقطع، يأخذ ما قُدّر له بعد رضا السيدة لينطلق كالسهم بصيده، يلتهمه بعيدًا عن أعين البشر والقطط الجائعة.

طاولة أحاط بها بضعة كراسي عشش الصمت والتراب فوق نقوشها حتى ظللها بشكل آخر لا تألفه النفس (أرأيت يا حاج محمد؟! كنت تفضّل هذه الوجبة، ابنك مثلك يفضلها، سيأتي اليوم هو وزوجته وابنتهما المشاكسة، فهذا موعدهم الشهري كما تعلم).

تستريح على أريكة الحاج محمد وهي تطلق آهَةً حزينة، كأن ظهرها قد أطلَقَ لسانها بما تشعر به من ألمٍ منذ الصباح.

مالت حقيبتها بجانبها فتذكرت مرتّبها، تدخر منه مصروفًا شهريًّا لولدها القادم مساء اليوم، وتضيف إليه مصروف ابنتهما، فافْتَرَّ ثَغْرُها عن ابتسامةٍ خفيفةٍ، إذ تذكرت تلك الطفلة المشاكسة. تبلل أصابعها وتمرُّ بها على طَرْف العملات الورقية، تعدّها بوتيرة بطيئة يُستبعد معها الخطأ.

رَنَّات متلاحقة عجولة، شابٌّ به حيوية وعنفوان لا يود صاحبهما لهما الخفوت تحت وطأة الحياة، ملابس رائقة لا تختلف عن ملابس زوجته، أما الفتاة فتكاد لا تُرى لتسللها على عنق جدتها التي لا تقوى على حملها، فتتركها لتذهب في البيت جِيئةً وذهابًا لترى أهناك جديد أم أن حاله كما هو لم يختلف؟

ضحكات من القلب، وأخرى متكلّفة، تبتسم وتهزّ رأسها على وقع الكلام السريع المسترسل على لسان ابنها، والزوجة لا تفسح مجالا للأم، فهي تطلق ضحكاتها بصوتها الحاد، وحوارها بينها وبين زوجها، متناسية أنها في حضرة بيت آخر ليس ببيتها.

لا ترى مُتَنفَّسًا لكلماتها العفوية مع أحد سوى حفيدتها، لا يلتفت ابنها وزوجته إليها إلا بعد الانتهاء من تناول الطعام، وقد نهضوا جميعًا عن طاولة الطعام، وهم يثنون عليها وعلى وطعامها، ولا ينتظرون ردًّا منها.

تنزوي الزوجة أمام التلفاز، والحفيدة متحفزة لمشاهدة برنامجها المفضل، يأتي ابنها الوحيد عند طاولة الطعام حاملا صينية من نحاس عتيق، رُصّت عليها كنكة القهوة وحامل شعلة صغير وفناجين وزجاجة مياه معدّة مسبقًا لمن أراد أن يتلذذ بفنجان قهوة على هدهدة اللهب الخافت، رائحة القهوة تفوح رويدًا رويدًا تسبق إلى الأنف قبل ارتشافها.

يشرَع الابن في حديثه عن أحواله وأقساطه المتتابعة وطلبات الطفلة التي لا تنتهي… مظروف أبيض يقع بحنان في كف الابن. يُقبّل يد والدته ويدعو لها بالصحة والحفظ، لكنه لا يُذكّر لسانه أن يسأل عن صحتها، وهي التي أخذت قدماها تتعود على زيارة الأطباء بكثرة عما سبق!

انتهت الزيارة سريعًا، وفنجان القهوة ما يزال دافئًا على الطاولة، تنظر هي إلى الحاج محمد، أتشكو همًّا أم تُفضي بعتابٍ كائنٍ بداخلها؟! تلك الصورة المعلقة على الجدار هي ملجؤُها، بدونها تكاد تنسى النطق بالكلام، وتختنق من شدة الوحدة والانزواء.

تخلُد إلى قيلولة خاطفة على الأريكة كي لا تستغرق في النوم فيفوتها موعد الطبيب الحازم في مواعيده، إنه لا يقبل مريضًا متأخرًا إلا بعد الرجوع إلى السكرتيرة لحجز موعد جديد ربما لا يكون إلا بعد أسابيع قادمة، لا يدري المريض خلالها هل سيعيش حتى الموعد القادم أم سيكون ذلك الموعد أطولَ من عمره.

بعد مشقة الطريق والتنقل بين سيارات الأجرة الجماعية المتهالكة لتوفير بعض النقود، تصل إلى عيادة الطبيب، على بُعد خطوات من باب العيادة تشعر بنسيم هواء المكيف البارد الذي يمحو آثار العرق، لكنه لا يمحو آثار الآلام والأوجاع.

نداء متكرر.. حتى تميل إحدى الجالسات إليها (هل أنتِ فلانة؟ تنادي على اسمك يا حاجة)، معتذرةً للممرضة، وهي تلاحق ترتيب ملف كبير رُصّ أمام الطبيب، يحمل أشعة سوداء وأوراقًا بيضاء متفاوتة الأحجام، وبلهجة سريعة يبادرها الطبيب دون عناية بفن تهذيب الكلام وتنميق الكلمات؛ فهناك كُثُر ينتظرون! (بعد التأكد من الأشعة والتحاليل. نعم لديك سرطان القولون…) لم تعد تسمع كلمات الطبيب، ترى شفتيه تتحركان بالكلام، لكنها لم تعد تسمع سوى صوت الألم الذي يشتد، ولم تعد ترى سوى نعشها المُمَدّد وولدها الذي اتّكأ عليه باكيًا، دقات قلبها تزيد من وطأة تفكيرها، لم تعد تعلم أين تذهب، لم تدرك فيمَ كان يثرثر الطبيب الذي استدعى الممرضة لتعيد صياغة النصائح عليها، وتسمح للمريض التالي بالدخول.

غادرت المستشفى بخطوات ثقيلة تجرجر قدميها، وحرب من الأفكار تدور في رأسها (أحيانًا يخطئ الأطباء!) ثم يملي العقل: (لكنّكِ تُعانين من تلك الأعراض، وقد استوفيتِ كافة التحاليل، ولم يتعجل الطبيب الحكم)، يُستفزّ البدن: (لكني لم أشعر بألم المعاناة كما أخبر الطبيب) فيُقاطع العقل: (إذن لمَ لا تستطيعين ازْدِرادَ لقمة و…)، انهمرت الدموع خانعة تحت وطأة العقل، وسلّمت هي بحكمه!

كلما مرّت الأيام ازدادت ضراوة الألم، لم يكن ابنها الوحيد ينتبه لشحوب وجهها وهزال جسدها يومًا بعد يوم! كان يرُدّ ذلك إلى أنها لا تود أن تستريح، إنها منهكة بسبب عملها، (لا بأس هي بضع سنوات ثم تبلغين سنّ التقاعد)!

في إحدى المرات استوقفته عن حديث الشكوى المتكرر من ضغوط الحياة، وأخبرته أنها على مشارف الرحيل، صعق الابن وبكى بحرقة طفل صغير، وهو يرتمي بأحضان أمه، هدأت لذلك وتركت له فرصة كي يشبع من أحضانها الدافئة قبل أن تتملكها البرودة.

تحت وطأة المرض اضطرت إلى الاستقالة من عملها، وصار الابن بعد ترك أمه للعمل، هو وكيلها في صرف الراتب والمعاش المُقدّر للوالد.

تُزاحم زجاجاتُ الدواء الترابَ القابع على الطاولة الصغيرة المجاورة لسريرها، مُستلقيةً تسترِقُ السمع هل من طرقات أرْجُلٍ بالبيت، فتخيب آمالها، تلمح خارج الغرفة صينية القهوة النحاسية كأنّ لها دهرًا، بعد أن كانت نحاسية اللون صارت ترابية. انهمرت الدموع الحارة على وجنتيها الذابلتين وهي تنظر بأسىً إلى صورة الحاج محمد (أرأيت يا حاج محمد؟! لم أعد أراه، لم يعد يزورني، نكرني بعد جهدي وتعبي المُضني، لم أكن أعلم أن قلبه بهذه الصلادة! لا.. لا.. كنت أعلم ولكن كنت أكذّب نفسي، عندما رحلْتَ عنا وأراد الزواج بعد أشهر قليلة من ذهابك وسحب وديعتك البنكية التي أوصيتَ بها حتى تكفلني أنا وهو، ورفضي لكل ذلك حتى جمع الأقارب والجيران ليثنوني عن قراري، فأنا المخطئة؟! كيف لا أسعد لفرحه الميمون؟! كنت تعلم يا حاج محمد… نعم كنت تعلم أني سأحتاج المال في مرضي إذا ما ولّى قلبُ الولد عني، لا أرى ولدك سوى عند شراء الدواء، لا يترك لي فرصة أن أستظل بوجهه من شبح المرض والموت الراصد لي في كل حين، أخشى الموت ولا يدركني أحد… ليست تلك نهايتي، فنحن نخشى الموت، لكن يظل هدوء الخاتمة حلمًا يراود نفسي).

تكرر دخول القط الرمادي من نافذة المطبخ، يُسمع من خارج المنزل مُواءٌ مُتكرر بعنف وسقوط لأغراض مُحدِثة جَلَبةً تستدعي انتباه إحدى الجيران الصاعدة على السلالم أو المغادرة للبناء.. يتجمع نفرٌ ليس بالكثير، وصوت همهمات من مواء القط الشديد الهياج؛ فتقرر عُصبة منهم اقتحام المنزل عنوة بعد التأكد من عدم استجابتها لندائهم.

مُسَجَّاةً على الأرض، شحوبُ وجهها لم يعد بالمُخيف بل أصبح مضيئًا، ما زال مجرى الدمع دافئًا على وجنتيها، لم تُترك وحيدة منسية في إيابها كما تمنت.

الجيران بين نحيبٍ ودعاء، أسرعوا ليحملوها ويبدؤوا في مراسم وداعها إلى مثواها الأخير، فالابن هاتفه ما زال مشغولاً! حينما أدرك ما حدث كانوا قد وارَوا جسدها النحيل التراب بجانب زوجها الحاج محمد، لم يَحْظَ الابن بفرصة وداعها أو حملها والسلام عليها وعلى والده.

اصطفّ الناس لتقديم التعازي، الابن وحيد وإن كان حوله الجيران والأهل، ولكن نظراتهم وهمهماتهم اللائمة نأت به بعيدا عنهم.

بخطوات وئيدة ثقيلة يجرها جرًّا وكأن لسان حاله يستنطق البوح ليستريح (عدت إلى بيتي الخالي من الدفء، البرد والقشعريرة تتملكني من رأسي حتى أطرافي العصية على الانثناء، شعيرات الأيدي منتصبة، وبصيلاتها بارزة من تحت الجلد، أستجدي أَلْحِفةً كامنة في الخزانة لأتدثر على الرغم من لفحات الهواء الصيفية الحارة الصافعة بين حين وآخر، كأنَّ دفْءَ العمر قد ولَّى، وجعل ظهري عاريًا أمام قسوة الحياة، تُراني أجني ما اقترفته يداي)؟!

لم يكن يعلم ما ألمّ به؛ أهو حزن لذا رأى الناس ينصحونه بالتزام الصبر، أم أنها بوادر عقاب أمسى يَلُوح في الأفق، ونفسه تخشى الاعتراف به صراحة، فينتفض قلبه وعقله من وطأة الخوف.

سيرًا سيرًا…أقدامه تأكل الطريق أمامها عساه ينتهي! تارة يهوي جسده بين أحضان الجموع المُتفرقة، يشرد بين وجوههم ونظراتهم فلا يلقى مُجيبًا، وتارة أخرى تنقله قدماه إلى أفق ممتد كالسماء والنهر الجاري أسفل الكباري، يبحث عن شيء ما فلا يعثر عليه، ظل يتنقل ويجوب الشوارع تائها كأنه أُصيب بهذيان ما فضُرب عليه التيه لسنوات.

طاف الأحياء واحدًا تِلْوَ الآخر، ملّت زوجته من امتداد فترة هذيانه، حتى ابنته المدللة كانت تتأفف حين تهديه خطواته إلى المنزل. رأى ذلك في عينيها، وأكّدتْه شفتاها اللتان نطقتا بسؤال عابر عن حاله!

ذات مساء غادر المنزل مسرعًا، يلهث، لا يوقفه خفقان قلبه الشديد، ولا أبواق السيارات الصارخة التي كادت تدهسه. وصل إلى عتبة بيت والده، تسبقه يده لفتح الباب، لا يخشى الدخول هذه المرة، صفع الباب خلفه، جثا من شدة التعب، والبكاء يتملكه، يتقلب على جنبيه والدموع مائلة تارة نحو اليمين وتارة نحو الشمال، حتى تغذى وجهه على تلك الدموع المالحة. فها هنا كما قيل له تمددت أمه، هنا كان وجهها ما زال دافئًا مبتلّاً بدموعها، إنه العذاب، نعم إنه يعترف الآن أنه اقترف السوء بيديه.

صرخات تتعالى من خلف الباب تُدرك أسماع الجيران، بعضهم يرنو إليه بامتعاض لإفاقته بعد فوات الأوان، وبعضهم يُقلّب كفّيه ويرحل في صمت. وجميعهم لا يملكون له سبيلا!

خرج إليهم صارخًا: (رأيتها، نعم رأيتها، مسحت بيدها على وجهي، كانت هنا ممددة بجانبي، وعيناها تلمعان.. لعلها تشفع لي عند خالقي، أجيبوني! ستشفع لي، أليس كذلك)؟!

أثار حديثه المضطرب فزع الجيران، وأخذوا يجيبون على أسئلته بكلمات خاطفة، ليفلتوا من قبضة أسئلته وعينيه المحدقتين بوجوههم… ورويدًا رويدًا خلا المكان إلا منه!

***





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى