د. محمد سعيد شحاتة - ترنيمة الوداع

إلى روح الصديق الراحل الدكتور رجب أبو الحمد، الأستاذ بكلية العلوم جامعة أسوان، الصعيدي الذي ظل وفيا لإنسانيته حتى آخر لحظات حياته



يهبطُ الليلُ في صفحة القلبِ
يستلُّ من زهرةِ العاشقِ العطرَ
يمضي
يقولُ الرواةُ : المشاهدُ حائرةٌ
والتفاصيلُ ضاقتْ بها أعينُ الرقباءِ
يا لتلك العيونِ التي تمتطي صهوةَ الموجِ
مكْسُوَّةً باللظى
ذاهلةْ
وقلوبُ الأحبةِ حول هوادجها
بالأسى مثقلةْ
قطرةً ...
قطرةً ...
تنزفُ الروحُ خمرتَها
في الترابِ الذي احتضنَ الجسدَ المتمدِّدَ
بين الضلوع
خطوة ً ...
خطوة ً ...
تحذفُ الروحُ ملمحَها من تفاصيلها
مثقلٌ بالطقوسِ القديمةِ هذا الجسدْ
عابرٌ قهقهاتِ المجيءِ إلى ولولاتِ الرحيل
وبينهما برزخٌ من ضجيجِ الحياة
مُعَلَّقةٌ في المدى الأمنياتُ
كترنيمةٍ تستعرْ
كطيورِ الخريفِ التي حاصرتها دموعُ الشجرْ
شهقة ً ...
شهقة ً ...
يرتمي القلبُ بين صقيعِ المنافي
وأقبيةِ الأسئلةْ
يا لتلك العيونِ التي تمتطي صهوةَ الموجِ
مكْسُوَّةً باللظى
ذاهلةْ
وقلوبُ الأحبةِ حول هوادجها
بالأسى مثقلةْ
*
يهبطُ النجمُ في صفحةِ القلبِ
يفتحُ صومعةَ الذكرياتِ
يا لتلك الطقوسِ التي لم تزلْ تحتفي بالأنين
وتكتمُ في الصدرِ أسئلةً مبهمةْ
سهامُ المناحاتِ لا تستقرُّ على شاطئٍ
وخيولُ الخيالِ مطرَّزةٌ بالحنينِ
كأنَّ لهيبَ الدموع بأعينها أوسمةْ
*
يهبطُ الليلُ في صفحةِ القلبِ متَّشحًا بالرؤى الذاهلةْ
شهرزادُ تلوذ بأوجاعِهَا
وتحملُ من ليلها كَلْكَلهْ
وليلُ البواكيَ ما أطولهْ !
وفوق موائدها الوجعُ المريميُّ
وتيهُ الرؤى
وينسجُ في مقلتيها اللظى هيكلهْ :
" كيف نحصي السنين التي قد مضت في رحابك
مثل جِماحِ الفرسْ
وأنتَ تداعبُ روحَ اليقينِ
وتشرقُ بين الحنايا كمئذنةٍ في الغلسْ
كيف نحصي السنين التي قد تجيء
معلَّقةٌ كالقناديلِ عيناكَ بين أنينِ القلوبِ
وحرِّ النَّفَسْ
فيا لجَلالِكَ !
تنقُشُ فوق الضلوعِ خفايا الحنينِ
تعانقُهُ لؤلؤاتُ الدموعِ
وتقْبِسُ منكَ النفوسُ ترانيمَها
في الهزيع الأخير
ويا لَلْقَبَسْ
ويا لَلْمتاهاتِ إذ تتجلَّى مُراوِغَةً
مثلَ مكْرِ العَسَسْ
والمواعيدُ مصلوبةٌ بين صدر الرياح
وخاصرةِ القبر، يهمسُ:
هذا المصيرُ الأخيرُ
ونحن على موعدٍ.
رافقتكَ السحائبُ حيث تُزَفُّ لجنَّات عدْنٍ
فقد كنتَ تعشقُ صوبَ الغمام
ولؤلؤةَ الكلماتِ
وكنتَ تواري جراحَ الأسنةِ بين الضلوعِ
فتأتي الشياهُ إلى عشبِ قلبٍ
وما كنتَ تدري بخطو السنين
رافقتكَ السحائبُ حيث تُزَفُّ لجنَّات عدْنٍ
فقد كنتَ صوتَ الغمام إذا ما اكفهرَّتْ وجوهٌ
وكادتْ قلوبٌ تموتُ من الظمأ المشرئبِّ
بأعينِ هذا الزمان
والقصائدُ حالمةً سطَّرتْها يداكَ بقلبِ الألى عرفوكَ
ملاكًا يطوف
وما خِفْتَ يومًا رجالَ القبيلةِ يحتشدون
تطنُّ سهامهمُ كطنينِ الذبابِ
وما خِفْتَ يومًا رماحَ القبيلةِ
ترقصُ مثلَ السنابل بين العيونِ
وتحصدُ خُضْرَ القلوبِ
وترسمُ شكلَ الحتوف
رافقتكَ السحائبُ حيث تُزَفُّ لجنَّات عدْنٍ
فقد كنتَ وَعْدَ الغمام
إذا جئتَ تتركُ فوق الشواهقِ ظلاًّ ظليلا
وحين تبادرُ بالودِّ يَنْبتُ للشوكِ وردٌ
وتنسجُ للعامريَّة تاجـًا
وأنتَ تراقبُ عيناكَ نحو الغروبِ سبيلا
تصيرُ صدىً
*
مَنْ لتلك القلوبِ التي غادرتْ في الهزيع الأخير
تلمُّ شتاتَ الملامحِ
تحترفُ الدمعَ
تحضنُ رائحةَ السنوات
مَنْ لتلك العيونِ التي سافرتْ عبر أخيلةِ الشعراءِ
لتطوي البقايا التي خلَّفتها الأفاعي على دربنا
وكم عشقتها القراصنةُ العابرون على قلبنا
والملامحُ لا تستبين
رافقتكَ السحائبُ حيث تكون
*
سنبكيكَ عمرًا تناثرَ بين الدروب
ونبكيكَ حلمًا تشظَّى
ونبكيكَ أغنيةً لا تغيب
وأفئدةً بالحنين تلظَّى
فأنتَ الذي بالمشاعلِ تحظى
*
أيها البحرُ رفقــًا
فقد كان مثلك بحرا
يعانقُ موجُ القلوبِ شواطئه المشتهاةَ
فينسالُ عطرا
وتحضنُ أمواجَه الشمسُ
يختالُ مدًّا وجزْرا
*
سنبكيكَ حلمًا تشظَّى
وأفئدةً بالحنين تلظَّى
فأنتَ الذي بالمشاعلِ تحظى
وأنتَ الذي بالمشاعرِ تحظى .
*
يهبطُ الفجرُ في صفحة القلبِ
كيما يلملم أوراقـَنا النائحاتِ
على عُمْرِنا
يراودُنا العاشقون القدامى
فإنـَّا عشقنا عيونَ الرمادِ
وتلك الأخاديدَ في دربنا
وغلَّقت الأمنياتُ معابرَها
ليس إلا طيوبُ المقابرِ في أعينِ العاشقين
فمن لقلوبٍ مضمَّخةٍ باللظى
والعيونُ مرصَّعةٌ بالحنين
يا لَسِرْبِ الطيوفِ التي أقبلتْ
في الهزيعِ الأخيرِ
ونحن على موعدٍ
*
يهبطُ الفجرُ في صفحةِ القلبِ
والقلبُ يغزلُ تاريخَه
في الدروبِ التي أسكرتْنا مواويلُها
فكيف نغادرُ دَرْبًا مطرَّزةً ضفَّتاه بخَطْوِ السنين
*
يهبطُ الفجرُ في صفحةِ القلبِ
زلزلت الرُّوحُ زلزالها
ليس إلا طيوبُ المقابرِ في أعينِ العاشقين
فمن لقلوبٍ مضمَّخةٍ باللظى
والعيونُ مرصَّعةٌ بالحنين

د. محمد سعيد شحاتة



___________________
ديوان: سمراء الجنوب




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى