ريم عبد الباقي - سمفونية الأنفاس..

دارت حول نفسها دورة كاملة تتأمل فستانها المغزول بألوان البهجة وخيوط الفرح، تمايلت برشاقة ملفتة، لمعت عيناها بألق الرضا والسعادة..
تغيرات كثيرة طرأت على حياتها مؤخراً، جعلت لكل شيء مذاقا مختلفا، ملمساً انعم، عبقاً أعمق، خلقت لها عمرا جديداً غير العمر المكتوب بشهادة ميلادها..
روح جديدة حلت بها، انعكست على وجهها تبدد أشباح الابتسامات المجهضة والضحكات المبتورة التي سكنت شفتيها لأعوام طويلة.
ابتسمت لصورتها المنعكسة في المرأة..
أخذت نفسا عميقا ملأ رئتيها بهواء لم تشعر بعذوبته من قبل..
همست: ما أألذ تلك الأنفاس، ثم تساءلت في تعجب: هل يمكن أن يصبح الهواء حلو المذاق؟
هل يمكن أن تكتسب الأشياء صفات غير صفاتها، كأن يصبح للهواء مذاقا ولون أو رائحة، أو أن يسلك سلوكاً بشريا مثلاً؟!
أتتلاعب حالتنا النفسية في خصائص حتى ابسط الأشياء حولنا؟!
هل يخضع الهواء الذي نتنفسه بطريقة تلقائية، لا إرادية منذ شهقة الميلاد، عندما يصدم رئتينا بأول دفقاته فنصرخ صرختنا الأولى لنعلن بأنا هاهنا، لتلك الحالات التي تجتاحنا أيضاً؟!
يتقطع ويتهدج عندما تكون متوتراً أو خائفاً حتى يتعثر نبض قلبك ويتلعثم معلنا تضامنه مع رئتيك المرهقتان في سلوك عبثي، زئبقي، يضل يراوغك فلا يستقر على وتيرة واحدة.
تضيق بك الحياة فيغدو الهواء شحيحاً.. يلهج لسانك بدعاء يونس حتى يلفظك الحوت الذي ابتلعك واختنقت في ظلمات جوفه، تأخذ النفس تلو الآخر، ولكنه
يعصاك بلؤم عجيب، كأنه يتلذذ باختناقك والمك في سادية مجحفة.
بينما يهاجمك بقوة مباغته وضربات مؤلمة متلاحقة، يحاول الانتقام منك، إذا ما أرهقت جسدك بجهد أكبر من تحمله وقدرته، تتسارع أنفاسك حتى يؤلمك صدرك ليذكرك بضعفك واحتياجك القاتل له في غرور بشري مستفز.
يطغى طعم الصبر والعلقم على مذاقه بحلقك في لحظات الحزن، تزدرد ريقك مئات المرات لتخفف مرارته التي تسري كالسم في خلاياك دون جدوى.
وفي لحظات الحماس والترقب تشاركك أنفاسك الحماسة، تتسابق مع دقات قلبك حتى تشعر بجسدك كله ينضم لتلك الأوركسترا الملحمية المشوقة.
تجتاح قلبك المشاعر الجميلة فيصبح الهواء دافئا حنوناً يهدهد الفراشات التي يرتعش قلبك مع رفة أجنحتها الرقيقة فتزهر به براعم الأنس.
تتألق ابتسامة السعادة والرضا على وجهك فيرافقها نفس هادئ مريح يتناغم مع كيانك كله في سمفونية عذبة الألحان يرقص لها قلبك رقصة الأمل والفرح، تطغى حلاوة مذاقه على كل حواسك كقطعة حلوى سحريه تسري حلاوتها في الفؤاد قبل اللسان.
وكما بدأ أول لقاء لك معه بشهقة الميلاد يكون وداعك له مع زفرة النهاية عندما يحين أوان انسدال الستار..
تتباطأ أنفاسك وتعود لحالة انعدام المذاق واللون والرائحة حتى تسكن، تتحول كينونتك الى أثير يتناثر في العدم، فيتلاشى وجودك دون أن تؤدي تحية الختام أو تسمع دوي التصفيق الذي انتظرته عمرا كاملا.
عادت تتأمل خيوط الضوء المنعكسة على صورتها في المرآة.. تلك المرآة التي أعلنت العداء لها وأشاحت عنها طويلاً، ها هي تمد لها اليوم يد الصداقة وتبتسم لها بود.
انتشت روحها بالسلام الذي سرى من داخلها متسللاً الى ملامح وجهها ففاق أشعة الشمس نوراً وبهجة..
همست بحبور: ومازال في الصدر بقية من أنفاس.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى