صابر رشدي - من أنت؟

نظر إلىَّ، ثم أشار إلى فمه، كانت الورقة النقدية الكبيرة معلقة فى يده، يطوِّح بها فى الهواء يمينًا ويسارًا فيما يشبه الرفض وعدم الحاجة إليها، كانت تبدو فى اهتزازها شيئًا لا قيمة له.
فى البداية، ظننت أنه طامع فى ورقة أخرى، وأن هذه لا تكفى، فبدأت أشعر بالغيظ والندم، وأود استرداد ما أعطيته. كان يجلس إلى رصيف إحدى المستشفيات الكبرى، قريبًا من البوابة الرئيسية، تتناثر إلى جانبه أكياس ممتلئة بصنوف الطعام والخبز والفواكه الطازجة. فى حركة بطيئة أشار مرة أخرى إلى فمه محاولا إعادة الورقة. لم أفهم على وجه التحديد ماذا يقصد، فأنا ضعيف فى لغة الرموز والإشارات المبهمة؛ أتعثر فى فهم معانيها وما ترمى إليه. لقد كنت فى زيارة صديق لى محجوزًا لإجراء عملية جراحية، وانتبهت مصادفة لهذا الرجل، وما قمت به كان بدافعٍ من الشفقة. عندما صعدت إلى الغرفة، كانت حيرتى ماتزال عالقة على وجهى، لم أستطع إخفاءها، عرفت ذلك من صديقى الذى لاحظها بسرعة بديهته وبادرنى مستفسرًا، فرويت له سريعًا ما حدث؛ فوجدته يضحك.
- ما الذى يضحكك؟
- لقد تعرفت إليه إذن.
- هل هو شهير إلى هذا الحد؟
- إنه أحد معالم المكان، لا تتم الزيارة إلا بالمرور عليه.
- أتعنى أن الأمر لم يكن مصادفة؟
- ربما.
- أنت تبالغ بعض الشىء.
- إنه رجل طيب.
- لا يهمنى إن كان طيبًا أو غير طيب.
عند هذه اللحظة حضر إلى الغرفة أحد الأطباء، يبدو أن أذنيه التقطتا الجملة الأخيرة.
- لا أحد يستطيع إبعاده عن هذا المكان.
هكذا بدأ حديثه، ثم أضاف:
- حاولها المدير السابق معه.
- المدير السابق.. إذن أين هو الآن؟ .. قلت ساخرًا:
- إنه رهن التحقيقات فى مخالفات جسيمة.
لم يكن من عادة الأطباء الثرثرة مع المرضى والزائرين، أو الدخول معهم فى حوارات مطولة، لكنه واصل بعد أن أنهى بعض الفحوصات:
- أحد رجال الشرطة كان يحاول طرده بطريقة عنيفة وقاسية.
- أكيد دهسته سيارة مسرعة، قلتُ مقاطعًا.
ابتسم الطبيب وردَّ فى بساطة:
- لا، ولكنه الآن أسير حالة من الهذيان والهلوسة، يأتى كل يوم فى ساعة محددة يصرخ أمام البوابة عاليًا ثم يختفى بعدها.
نطقت فى حدة، قاطعًا هذا الاسترسال العبثى، موقنًا أن الأمر لا يستحق كل هذا الاهتمام، فنحن فى نهاية الأمر نتحدث عن أحد المتسولين، يوجد ملايين مثله يفترشون سطح هذا الكوكب، لا غرابة إذن فيما يحدث، ولا داعى لإضفاء هذه الأبعاد عليه وتحويله إلى رجل استثنائى، خارق للطبيعة ومثار لحديث طويل.
استأذنت صديقى بعد أن اطمأننت عليه واعدًا إياه بالعودة فى اليوم المخصص لإجراء العملية.. وفور خروجى من البوابة وجدتُنى أسير مرة أخرى إلى جوار الرجل دون أن أنتبه، فقد نسيته بعد عدد غير قليل من النكات والذكريات اللطيفة، التى تُتبادل مع المرضى لإدخال البهجة والسرور عليهم لرفع معنوياتهم، ولكن يبدو أننى أسرفت فيها بعض الشىء ما جعل صديقى يعلق ضاحكًا:
- لقد جعلتنى أشعر بأنك تحاول إبعاد فكرة الموت عنى، مع أننى لم أفكر فيها على الإطلاق.
بعد ابتعادى بخطوات قليلة، انتبهت على صوت ينادينى، كان الرجل يصر على ندائه، اقتربت منه؛ وجدته باسم الوجه يمد يده مُجددًا بالورقة النقدية ناطقًا اسمى.
- خذها.
لم أستطع النطق، تحركت مسرعًا دون أخذ شىء، قبل نزوح المنطق والدخول فى رحاب اللامعقول؛ فقد كنت غير مستعد لمثل هذه المواقف، ولم يكن لدىَّ الحماس الكافى لخوض تجربة لم أتعرض لها من قبل، وانتظار ما ستسفر عنه، فثمة التباسات كثيرة كانت تسيطر على مشاعرى عندما كنت أستمع إلى الحكايات الشبيهة، مضيت وصورته لم تبارحنى، أفكر فيه وفى هذا العالم الغرائبى، الذى يوازى عالمنا ويتقاطع معه أحيانًا بالقصص والحكايات النادرة، كنت مأخوذًا بما حدث: متسول يرفض النقود ثم ينادينى باسمى دون سابق معرفة!
أشياء كثيرة كانت تمر على ذهنى وتسيطر على تفكيرى فى أثناء العودة، أما المفاجأة الحقيقية فقد كانت تنتظرنى فى بيتى، عندما وجدت الورقة المالية قابعة فوق التسريحة بصورة ملفتة، ومطوية كما وضعتها فى يده، مما فاقم دهشتى وجعلنى أتعجل الزيارة القادمة، مفكرًا فى تجهيز بعض الأطعمة الفاخرة له.. حين عدت وجدته هناك، جالسًا فى مكانه كأنه لم يبارحه لحظة واحدة، نفس السمات، نفس الملامح، الملابس ذاتها، وأكياس الطعام المحيطة به، لم يتغير شىء، كأن الزمن قد توقف لتخليد هذا المشهد.
قبل أن أتساءل أين تذهب هذه الأطعمة بادرنى بلطف:
- صديقك.
كان الموقف يستدعى استعمال الحدس والتقاط مقاصده فى لمح البصر.
قلت مرعوبًا:
- لا تقل إنه ...
- لا تقلق إنه فى خير.
- ما الذى حدث إذن؟
- عاد إلى بيته.
- وإجراء العملية؟
- لم يعد بحاجة إليها، إنه رجل سخى، بارٌّ بجميع من حوله، كنا ندعو له.
التقطت أنفاسى وبدأت أشعر بالارتياح، ولكنى شعرت بالخجل من تفكيرى فى تركه، والدخول إلى المستشفى للتأكد من هذا الخبر، كنت مترددًا ولكنى أخفيت عدم ثقتى فيما قال حتى لا أسبب له حرجًا، وتطلعت إليه مرة أخرى، فوجدت أمامى وجهًا صادقًا، وملامح عكست لدىَّ ارتياحًا عميقًا وطمأنينة كاملة، ناولته مكعب جبن صغير من الأشياء التى أحضرتها له؛ فتناوله من يدى، حينئذ وجدت مذاقه يسرى فى فمى، ثم تفاحة كبيرة، فوجدت بعضًا منها بين أسنانى، للتأكد ناولته قطعة حلوى؛ فوجدت مادتها تذوب فوق لسانى، كنت فى حلم أعيش لحظات خيالية غير قابلة للتكرار، تشجعت ووضعت مبلغًا كبيرًا فى جيبه، فانتفخ جيبى بأضعاف مضاعفة؛ عند ذلك غاب تفكيرى، وغاب إدراكى المباشر لما يحدث، كان الأمر فوق طاقتى وقدرتى الضئيلة على الاستيعاب، غاب الواقع عن ذهنى ولم يعد هناك شىء آخر مثار اهتمامى، فقط انتبهت إلى نظرة الحنين فى عينيه، نظرة من يعرفنى جيدًا:
- من أنت؟ .. سألته.
لكنه ظل صامتًا محتفظًا بتلك النظرة الحميمة.
عاودت فى رجاء:
- من أنت؟
نطق أخيرًا فى هدوء:
- أنت.
قلت فى غير يأس.
- من أنت؟
وظللت أكرر، كان صوته يرن فى أذنى كرجع الصدى على نحو معذِّب، مطابقًا لصوتى الذى صار أنينًا ضائعًا فى الفراغ:
- أنت.
فلجأت إلى الصمت كى أسترد أنفاسى وأنهى هذه اللعبة، لكن يبدو أنه لم يُرِد إنهاءها عند هذا الحد؛ فقد باغتنى مرة أخرى:
- ...... تقرئك السلام.
ناطقًا اسم أمى المتوفاة منذ سنوات بعيدة.
قلت فى أسىً:
- لم أرها فى أحلامى منذ فترة طويلة.
قال فى نبرة حانية:
- ما زال طعم العصير فى فمها.
قلت وأنا أحاول التماسك بصعوبة:
- كان آخر ما تناولتَه من يدى قبل الرحيل بثوانٍ قليلة وهى فى غيبوبة آلامها القاتلة.
قال فى نبرة عطوف منخفضة قليلا:
- ما زالت تحبك.
قلت في نشيج متقطع:
- كنت أعبدها.
وتسللت منى دمعة صغيرة؛ جعلته يُواصل مواسيًا:
- ما زالت تدعو لك ولم تنسَ أنك قبَّلت قدميها لحظةَ وفاتها.
فى هذه اللحظة، اهتز جسدى وأجهشت بالبكاء؛ متذكرًا كل ما مر بها فى محنتها.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى