إخلاص فرنسيس - تعي.. قصة قصيرة

كان الجسر المبلّل بزبد البحر يرتجف تحت أقدامها العارية إلّا من الخلخال الذهبيّ الرفيع يلتفّ بحنوّ حول كاحلها الرقيق، وبحرص يبتسم كلما هبّت نسمة هواء، وضربت طرف ثوبها الأزرق. كانت تسير بغير هدى، على طرفي الجسر امتدّ صيادو الأسماك كبارًا وصغارًا يتفنّنون في التقاط تلك المخلوقات الصغيرة اللزجة، وسحب الحياة من خياشيمها.
بدا الجسر المكتظّ وكأنّه كرنفال ملوّن، تسير ببطء، تتأمّل الألوان والأطفال، ومن الطرف الآخر من العالم. يتناهى إلى مسمعها صوت أمّ كلثوم "اسأل روحك، اسأل قلبك "وكأنّ صوتها هو ما كان ينقص هذا الجوّ المشحون كي يضيف الموسيقا التصويرية الأساسية للمشهد، وتسحب بدورها اللؤلؤ من خضرة عينيها.
ترنّحت، وتململت في مشيها، لم يعد هناك ما يصبّرها، المسافات تبتعد أكثر، الشمس غرقت وراء المحيط حيث تشرق شمسها، صوت لا صورة، روح لا كيان، دمغة في صدر القدر، ووشم في جشع الغربة، ودمعة هجر لا تجفّ.
كانت الطاولة في الركن المطلّ على البحر في الزاوية الخارجية فارغة لا يشغلها أحد، حتى الطيور غادرت مطعم الجسر ذلك المساء، وحده المكان يغني: "اتغيرت شوية شوية"، وبدأ الحنين يتفاقم، ويشتعل في طيّات الصدر بعد أن غلب القدر وكورونا الحضور.
الحضور في "حضرة الغياب" عبارة تعلّمتها، وأتقنت قولها بكلّ اللغات، وأصبحت الوسادة التي يرتاح إليها رأسها ليلًا، والمشجب الذي تعلّق عليه سخرية الوجع في صدرها، تطرده، وتعلّل الحضور برغم الغياب، وهاتف يقول: "تعي".
تعالي نكمل الغياب بالحضور في حضرة الأحضان، ونقتل الفراغ، وننتصر على السنين والزمان. تعالي إلى برّ الأمان، ميناء صدري، تعالي لأغزل الموج على خصلات شعرك، وأعزف موسيقا الوجود على سلسلة الظهر، وأقتبس من شفتيك أوزان الشعر، أرسم جغرافية الكون على محراب عنقك، وألّقن التاريخ درسًا كيف تُقهر الممالك أمام ابتسامتك.
تعالي لأدرس علم الأفلاك في عينيك، وأغرق في مجرّة روحك، بس "تعي".
رفعت أبصارها نحو الأفق الفسيح، كان الليل قد بدأ يلفّها بشاله الأسود، والموج يتراكض نحو الشاطئ، يطفئ ظمأ الرمل، والنورس يغرف الهواء بجناحيه، وهي هنا متسمرّة في راحة يديه، وعزف أنامله على شغاف مسامعها تبتسم: "تعي". "جيت". وتغرق في لجّة الطحالب، وبرودة الموج، وتتكفّن بعصف الزبد.




  • Love
التفاعلات: سالم عقراوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى