محمد فيض خالد - أنا وبحر يوسف

لا يمرّ عليّ يوم دون أن اُطالع شبحه الفضيّ المُنساب يترامى عن بُعدٍ ، تتلألأ قطرات ماءه العذب ،و تنساب أمواجه الرقيقة في صفاءٍ ورونق ، يسرّ الناظرين ، كُنتُ صغيرا اشاهد من فوق سطح بيتنا القديم خياله ، اتسائل في دخيلةِ نفسي مُقشعرِا في وجل: تُرى إلى أين يتدفق هذا السّيل العرمرم ؟! .
ما أشدّ احتياله ، وما أقسى اختياله حينَ جريانه ، يختال في وهجِ النّهار كسلسلةٍ ملتوية ، تتراقص تحتَ خيوطِ الشّمسِ المُرتعشة ، ما أشبهه بابتسامةٍ رقراقة ، فوقَ شفاه معشوقةٍ لعوب ، يحتضن جروفه المُخضرّة شرقا وغربا ، والتي استسلمت لتيارهِ الغاضب ، ينخرها في خضوعِ التابع الضعيف.
يقول عجائزُ قريتنا عنه :إنّ طابعه الغدر والعسف ، نهمٌ لا يشبع ولا يؤتمن ، تستيقظ في نفسهِ كُلّ كوامن الشّرّ ، لا يعرف الوهن ، لا ينضب ماءه أبدا ، ما إن تُداهِمه السّدة الشتوية كغيره من الترعِ ، حتى تعمل ينابيعه السِّحرية ، التي تفورُ من أعماقهِ ، فتتفجّر عيونا هدارة ، يُعاود معها اهتياجه ، ويتجدّد بها شبابه ، ما إن تنطِق اسمه ، حتى تطل عليك الصّور وتثور الأفكار في تناوحٍ غريب ، هنا مشى يوسف الصِّديق عزيز مصر مع حاشيتهِ وأبّهة ملكهِ ، وهذا المجرى أثر مبارك لسيفهِ ، الذي خطّ الأرضَ حين غفا فوقَ دابتهِ ، فشاءت إرادة الخالق ؛ أن يصبح اسمه ملء الأفواه ، تيمّنا به ، على ضفتيهِ يلقي السُّكون سجوفه فوق الحقولِ ، فتنشقّ فيها نسمات السّعادة والحُب بردا وسلاما ، تزحف ساعتئذٍ فوق جروفه الهانئةُ مجاميع العُشاق خِلسة ، يستروحوا نسماته النّدية في دِعةٍ واطمئنان ، يرشفون كؤوس الهيام عذبة شهية، قد صفا لهم الدّهر وهادنهم بعد طولِ حرمان ، تتلاقى نضارة الصِّبا ، وبكرة الشّباب على أديمِ الأبديةِ والخلود .
في ساعاتٍ كثيرة ؛ تجفّ تلكَ النّضارة وتضمحل مظاهر الاعجاب رويدا رويدا ، لحظة يلتطم الجمهور الصّاخب ، تحمله " الصنادل " تعبر للبرِّ الغربي ، هناك حيث تستقرّ أجساد الموتى من الآباءِ والأجداد ، تعوّدت صغيرا هذا الموقف ، انظر من فوق ِ " الصّندل " بعينٍ حمئةٍ نحو مائه الهادر ، اندسّ بجسدي الصّغير وسط الجمع المشيّع الحزين ، أجدني ارميه بابتسامةٍ المداهنة صفراء باهتة ، وإن كنتُ في قرارةِ نفسي اسبه وألومه ، يؤمّن أحد العجائز على أحاسيسي ، فيلقي عقب " سيجاره " غاضبا ، يمسح جبهته المنضدة عرقا ، ويُقسِم : إن عدد الغرقى فيه بعددِ قطراته ، زار قريتنا بائع العسل الأسود ، لكنته صعيدية جافة ، رجل أسمر ، نحيف البدن ، ملامحه وضاحة بارزة ، قال لاهث الأنفاس ، وأسنانه تصرّ غيظا : لقد سحرتني امرأة من الجنوب زمنا طويلا ، ربطت سحرها حول رأسِ " قرموط سمك" واطلقته في بحرِ يوسف .
كان لكلماتهِ نشوة في نفسي ، عاجلته في حمأةِ الكلام ، بصوتٍ راجف النبرات في غيرِ ترددٍ ولا أناة : وكيف برئت من سحرك يا عم ؟ نظرَ إليّ مُرتعد الفرائص ولم يجب ، وحتى الآن لم أعرف كيف برئ صاحبنا من سحرهِ




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى