د. علي خليفة - مسرحية إستير لجان راسين

كتب راسين هذه المسرحية بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة عن الكتابة للمسرح، وكان قد كتب هذه المسرحية ذات الفصول الثلاثة بغرض أن تمثل في إحدى المدارس الدينية؛ ولهذا تعد هذه المسرحية من المسرحيات الدينية التي كتبت في المسرح الكلاسيكي الفرنسي في القرن السابع عشر.
وقد استلهم راسين أحداث هذه المسرحية من سفر إستير من العهد القديم، وصور فيها ما حدث لبني إسرائيل من تشتت وضياع وتعذيب في فترة من التاريخ القديم نتيجة أنهم أشركوا بالله، ثم حدث لهم أن توقف هذا التعذيب لهم بفضل إستير.
وقد خالف راسين في هذه المسرحية سفر إستير في إضفائه مسحة من التقديس الكبير على إستير، وعلى عمها مردوشيه، وجعل هامان هو مصدر الشر الوحيد في الإمبراطورية الفارسية التي حدثت فيها حوادث هذه المسرحية، والحقيقة أن إستير ومردوخاي أو مردوشيه لم يكونا بهذا النبل الكبير الذي صورته هذه المسرحية، فهمًا - كما في سفر إستير- حين تمكنا ساعدا في قتل عدد كبير من العماليق أعداء بني إسرائيل، كما عملا على قتل عدد كبير من الفرس.
وعلى الرغم من الحس الديني العميق الذي نراه في هذه المسرحية - خاصة في أقوال إستير والفتيات الإسرائيليات اللائي يصحبنها، ويشكلن جوقة تقوم بإنشاد الأناشيد في تمجيد الرب، وذكر أفضاله على بني اسرائيل - فإن عقدة هذه المسرحية ضعيفة، ففيها نرى هامان وزير ملك الفرس أسيريوس متمكنا منه، حتى ليكاد يكون هو الذي يسير الحكم في البلاد بدلا منه، ويقرر هامان إن يتم قتل اليهود الذين يعيشون في الإمبراطورية الفارسية؛ لأنهم كثيرا ما قتلوا بني جلدته من العماليق في الماضي، وكذلك نرى هذه الرغبة عنده في قتلهم؛ لغضبه الشديد من مردوشيه اليهودي الذي كان لا يوقره، ولا يذل له عكس بقية الناس في الامبراطورية الفارسية آنذاك.
ويوغر هامان صدر أسيريوس على اليهود الذين يعيشون في مملكته، فيقول له: إنهم دنسون، وفي طبيعتهم التآمر، وأنهم ينتهزون الفرصة لينقضوا على مملكتك ليأخذوها لأنفسهم، ويصدق أسيريوس كلام وزيره هامان، ويكتب منشورا يتضمن قتل كل اليهود الذين يعيشون في مملكته بعد عشرة ايّام.
ويطلب مردوشيه إلى ابنة أخيه إستير - التي اختارها أسيريوس زوجة وملكة من بين كثير من النساء الذين عرضن عليه؛ لجمالها، وكان مردوشيه هو الذي خطط لعرضها على أسيريوس لتحقيق أغراض خاصة باليهود - أن تقوم بالدور المنتظر منها، في إقناع الملك أسيريوس في التراجع عن قراره بقتل كل اليهود الذين يعيشون في مملكته، وتستطيع بذكائها ولباقة حديثها أن تقنع أسيريوس بأن اليهود الذين يعيشون في مملكته لا يهدفون لأي أَذًى له، وتذكره بأن مردوشيه هو الذي عرفه بمؤامرة لشخصين عزما على قتله، وتذكر له أن هامان يرغب في قتل اليهود ليثأر لمن قتل من أجداده العماليق على أيدي اليهود، وتحدثه عن عبادة اليهود لإله واحد عادل ، ويقتنع الملك أسيريوس بكلامها، ويأمر بقتل هامان، يقرر قرارات أخرى، فيقول: سأرفع عن اليهود الظلم الواقع عليهم، وأبيح لهم دم جميع مبغضيهم، وأريد أن يكونوا موضع التكريم، كالفرس سواء بسواء، وأن يخشع الجميع لاسم الإله معبود إستير، ولتقم أعيادهم، وليعد هذا اليوم عيدا كبيرا لهم.
وهكذا رأينا أن عقدة هذه المسرحية ضعيفة، فأسيريوس يأمر بقتل اليهود في كل الإمبراطورية الفارسية لمجرد وشاية من هامان ضدهم عند الملك أسيروس، وتستطيع إستير أن تفسد هذه الوشاية وتمنع قتل اليهود بحوارها مع أسيريوس وإقناعها له خلال حوارها له، وبهذا فلسنا نرى حوادث تم نسجها بشكل مثير في هذه المسرحية، خلاف ما نراه في أكثر مسرحيات راسين الأخرى.
وما نراه في هذه المسرحية من ثناء لراسين على اليهود ليس لذاتهم، ولكن من أجل أن يعبر عن فترة في تاريخ بني إسرائيل فيه صحوة دينية، وانتصار على الوثنيين، أما موقف راسين من اليهود في عصره فيبدو مختلفا كثيرا، كما نرى هذا في بعض الحوارات في مسرحية أتالي، فهم متآمرون، وغاصبون لحقوق غيرهم، وفيهم جشع شديد، ونرى هذه الصورة واضحة أكثر عن اليهود في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير في تصويره لليهودي المرابي البخيل شيلوك.
والشاعر شوقي خميس في مسرحية المقنعين قد عالج الأحداث التي رأيناها في هذه المسرحية، وتم استلهامها من سفر إستير - بصورة مختلفة تماما، عن عرض راسين لها في مسرحية إستير، فقد اظهر فيها شوفي خميس إستير يهودية مخادعة متآمرة، واستغلت شغف الملك الفارسي أحشوروس بجسدها، فدبرت مؤامرتها مع ابن عمها مدرخاي على الفرس أهل البلاد، فقتل منهم أحشوروس أعدادا كبيرة، وتسبب ذلك في ثورة الفرس عليه بعد ذلك، وهروب إستير مع مردخاي لبلد آخر لينشرا سمومهما فيه.


د. علي خليفة





1631662763042.png







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى