محمد عبد الحكم حسن - زوجتي والحمام

انكفأتْ علي بطن جارتها، تتسمع وتبكي، قالت: أسمع هديل حمائمي الضائعات.
حقيقة أعرف أن زوجتي صادقة، ليس إيماناً بها ولا مجاملة لها .. فهي حين توجه أذنها جهة ضحيتها .. تكتشف سريعاً ما يخبئه من أسرار ونقود وكلمات سرعان ما يبوح بها وسط دهشة الجالسين، أما المنقار فهو للأشياء الصعبة .. حين تفرد ذراعيها كجناحين وتلف وتدور وتحك بمنقارها في الجسد، تبدأ بمداعبة ودغدغة ثم نقر موجع ومفجر للدم أحيانا .. كانت تدحرج جارتنا في نهر الشارع، وتضرب بجناحين من غضب وجهها، الناس يتعاطفون مع جارتنا التي استحال وجهها غربالا، وكادت أن تفقأ عينيها .. وكل من حاول منع زوجتي كان نصيبه منقارا، إن لم يكن في وجهه فإنه سيهرول وهو يهرش مؤخرته الملتهبه .. ثاروا ووقفوا علي حدود الشوارع وفوق الأسطح، قالوا امنع زوجتك عنا.. فرصتي إذن، سأتحرر من ضربات جناحيها، ولفح أنفاسها، وتلتئم الثقوب في جسدي، سأتخلص من حمام يملأ أركان البيت ويبيض تحت السرير، يغيظني بهديله الساهر ودعوته للتزاوج، سئمتُ خنقة الحر وإصرار زوجتي علي عدم تشغيل مروحة السقف، تقول: تجزُّ رؤوس الحمام. حماماتها التي تتبعني أينما ذهبت، مرة وجدت بيضة علي مكتبي في العمل، وقبل أن ألقيها وجدت حمامة تحدق فيّ من النافذة، في البيت قالت أين البيضة، كنت وضعتها بعناية في حقيبتي، احتضنتْ البيضة وتركتني أقمقم في خبز يابس، وضعتها علي يدها وحطت عليها الحمامة التي كانت تتبعني، في ماكينة الصرف الآلي أستعلمتُ عن الراتب، ومددت يدي لأخرج الإيصال، كانت حمامة قد سبقت يدي، التقطتْه وطارت به وسط اندهاش الواقفين. قالت: أين باقي النقود؟، قلت: ماكينة الصرف الآلي لا تخرج فئة العشرين جنيهًا وما دونها .
بالأمس وعلي مقعد شاغر في السيارة جلستُ، الجالسة بجواري يحاصرني عطرها ورقم هاتفها الذي أظهرته مع نصف لسان وغمزة عين ونخسة حذاء في قدمي، وأنا عيني علي النافذة أداري وجهي عن حمامة تنقر الزجاج وتطير. حقيقة أنا لا أكره الحمام، أحب منه الصدر، تقول: كُل واشكر. وفي الليل توليني ظهرها وتروح في نوم عميق، تتركني في نهر الظمأ وكرابيج أحلام تطاردني، وذكور حمائم تقفز فوق الإناث مغيظة، لا تكل ولا تمل، تسلمني إلي جحيم اليقظة وليل طويل.
مشيتُ هائجاً في البيت، أداري وجهي خشية أن يفضحني افتعالي، هي دائما تقرأ أفكاري، حين تحدق فيّ ويحاصرني جناحاها ومنقارها وهي تتفرس في وجهي، لفح أنفاسها يعريني، تسلبني طواعية أشيائي التي أخفيها وذكرياتي أحياناً، فأخبرها عن نقود خبأتها، وامرأة قابلتها، وعصير قصب شربته اليوم خلسة وأنا عائد من عملي، قالت عرفتُ .. وألقت بحفنة قمح لحمامات كانت تراقبني.
اليوم والناس يلتفون حولنا، أقسمتُ ألا يبيت الحمام في البيت، هِلتُ أوكار الحمام، شكوت بصوت عالٍ للجيران الذين اجتمعوا واستمعوا في شماتة، لملم الأطفال البيض والزغاليل، أشعلت مصابيح بيتي وأطلقت البخور، نثرتُ الشيح درءًا للثعابين .. وطردتُ زوجتي، زوجتي التي كانت تسير في الشوارع تطلق أغنياتها لحماماتها التي تجمعن فوق رأسها غمامة تنتظر إشارة منها لتلاحق هروبي المستحيل.





محمد عبد الحكم حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى