ياسر جمعة - البيت الذي تحرسه القصائد..

إلى الشاعرة: فاطمة قنديل


قادتني الصغيرة، التي وقر في نفسي أنها خديجة وقد عادت طفلةً دون الخامسة تقريبًا، إلى بيتٍ له حديقةٌ متوحِّشةٌ كغابةٍ كانت تحجب معالمه، اخترقنا الحشائش والأغصان المتشابكة وولجنا الباب الذي إنفتح سريعًا، وجدنا بابًا ثانيًا، أدركتُ مباشرةً أنه بيت الشاعرة الذي حدَّثتْني عنه الصغيرة عندما أخبرتها بأمر الكلمات التي صارت تغادر ذاكرتي، قابلنا بهوًا فسيحًا تحجب جدرانه كتبٌ متفاوتةُ الأحجام، ولوحاتٌ.. لوحاتٌ تبدو كنوافذَ تطلُّ منها وجوهٌ وأشجارٌ ومدنٌ، كان يزيدها الضوء الشاحب حضورًا، وكانت تتجوَّل في خلفياتها ظلالٌ شفافةٌ، خفتُ، وركلتْ ساقي منضدةً صغيرةً فوقها كتابٌ ونظارةٌ وعلبة سجائرٍ، ركلةً خفيفةً خلَّفتْ صوتًا مكتومًا امتزج بتأوِّهي الخافت. أمسكتِ الصغيرة يدي وأشارت بإصبعها أن أصمت، كانت عيناها جاحظتَين، تتبعتُ نظراتها فرأيتُ الظلال وهي تقفز من إطارات اللوحات وتسعى نحونا، غير أنها توقفتْ ما إن لزمنا الصمت وراحت تحرِّك رؤوسها، كنتُ أرتجف متعرقًا، وكنت قد أدركتُ أنها ترى بآذانها، لمحتُ بطرف عينَي طيف ابتسامةٍ على وجه الصغيرة، التفتُ نحوها مندهشًا، حذرتني بإصبعها فتلاحقتْ أنفاسي، ضغطتْ بكفها الصغيرة على كفي وحركت شفتَيها كمن يرسم الكلام دون أيِّ صوتٍ:
"لا تخفْ، إهدأ، إنها قصائد الشاعرة وحارسة كلماتها".
"كيف عرفتِ؟!".
تساءلتُ محتارًا، كيف عرفتْ أصلاً هذا البيت وشاعرته وهي في الرابعة من العمر ما تزال! تلاشى خوفي، إلا قليلًا، ورحت أتأملُها.. كانت ملامحها الصغيرة المتناسقة متوهِّجةً بالبهجة، وكانت تتمايل.. تتمايل خفيفًا في ثوبها القصير، تتمايل وترمق الظلال التي نسيتها للحظةٍ في شغفٍ، مما جعلني أوقن تمامًا أنها خديجة حبيبتي وقد صارت ابنتي، لذا رحتُ أتمايل مثلها، فانتبهتْ.. نظرتْ إليَّ وهي تكتم ضحكةً كادت أن تنفجر، ثم هزَّت رأسها ذا الضفيرة الواحدة مشجِّعةً، ابتسمتُ لها، فحركَّتْ شفتَيها دون صوتٍ:
"إن وصلنا للإيقاع المناسب للقصائد -فهمتُ أنها تقصد الظلال- ستهدينا بعض الكلمات، ونستطيع أن نعود كلما غادرتك الكلمات كي نحصل على المزيد، هيا ارقص".
بهتُ، لقد كنت أظنُّ أنها قادتني إلى هنا كي نسرق الكلمات، كي نحصل على كلِّ ما نريد ونذهب! ضغطتْ على كفي، انتبهتُ.. كانت الظلال تتمايل هي الأخرى، جذبتني كي نرقص بينها، عاودني خوفي، أشارت لي أن أغمضْ عينَيكَ، امتثلتُ، جذبتني، طاوعتها متمايلاً، وهكذا بقيتْ تقودني بهجتها الصافية التي ظلت تصنع في الروح إيقاعًا هادئًا، وتجعلني أرى، دون أن أفتح عينَي، الظلال وهي تتمايل معنا، ثم وهي تعود بعد ذلك إلى لوحات الجدران بين الكتب، وقد حصلتْ على خمس كلماتٍ جديدةٍ، كنت أرددها سعيدًا، عندما سمعتُ زقزقة العصافير، التي صارت توقظني منذ بدأ الحجر الصحي، فقمتُ مبتسمًا.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى