معاذ أبوالقاسم - بيلا تشاو()

(1)
ظُلماتٍ بعضها فوق بعض حجبت رؤيته للأشياء من حوله وشوهتها. وظلَّ ينهش عقله سؤال؛ هل هذا العالم الذي نعيش داخله حقيقي، أم أنه محض خيال. هل بالفعل نحن موجودون فيه، أم أننا كذبة ابتدعها أحدهم ومصيرها التلاشي عند انكشاف الحقيقة.
كان يجلس قُرب رأسها على كُرسي جُلِبَ له خِصيصاً بينما هي مُضطجعة قُربه. أمسك طرف الغطاء الأبيض الذي يلف جسدها، كشف وجهها، وأمعن فيه النظر؛ جبينها الذي بدت تظهر عليه تجاعيد خفيفة، عينيها المُغمضتين، شفتيها المزموتين وقد اكتست بالشحوب، وخديها الرخوين. وجه هاديء فقد كل ألقه وحيويته. أصابته لعنة النفوق واستراح للأبد.
ترسم قسمات وجهه شبح ابتسامة ويمسح بأصابعه على خدودها. يُحدق ملياً في الوجه الذي يعرفه جيداً، ويتسائل؛ أين اختفت الإبتسامة الساحِرة التي كانت تملأه غِبطة وألقاً. ينتظرها علّها تُشفق عليه وتفتح عينيها مرة ثانية، تُداعب ذِقنه بأناملها الناعِمة، وتترجاه أن لا يحلقها ثانية. تتسع رقعة الإبتسامة وتملأ كامل محياه.. لكنها تهرب سريعاً وتضطرب شفتيه. يمسك أكتافها، يضع رأسه على صدرها، ويجهش بالبكاء.
يهزها بقوة، ويُناديها بنبرة باكية مُترجية:“ هيا بنا يا حبيبتي، لقد تأخرنا على أهلينا، لا بُدَّ وأنهم قلقين علينا. -يصمت للحظات ويواصل- أوجوكِ!”.
لكنها تكتفي بالصمت. صمت ما عاد يطيقه.
(2)
داخل كافيه “الشروق” الواقع في محطة المؤسسة بالخرطوم بحري، كانا جالسين، حبيبين يقترفان من نهرِ العِشق ويرويان ظمأهما. الهدوء يسيطر على المكان عدا الهمسات الخافتة الصادرة بين الحين والآخر. وصوت موسيقى هادئة آتياً من البعيد. كانت ترتدي اسكيرت أسود وقميص كبدي اللون، حين أطلّت عليه كانت تمشي نحوه وكأنها قديسة.. تحيطها هالة مُشعة من الضياء تعمي بصر كل من يُحاول استراق النظر إليها.
مالت برأسها نحوه وبات يشعر بأنفاسها، لوهله ظنها سوف تُقبله، لكنها اكتفت بالتحديق في وجهه، ثم همستْ له بصوتٍ عصفوري:
- على فكرة إنت حلو شديد، وح أظل أشكر القدر الذي رماك في حُضني طوال حياتي. صمتتْ للحظات وهي تُحدق في عينيه. تعرَّق جبينه، بلع ريقه وهو يرى شفتيها تُحاول قول المزيد، ثواني الصمت كانت كأنها أعوام. ابتسمت وأردفتْ؛ أنا بعشقك.

ألجمته هذه الجُمَل، وارتبك وسط النظرات المختلسة من الجالسين حولهم. تأمل طويلاً في عينيها الزرقاوين، وهمس لها بذات النبرة:
- عِشقك هذا لا يُعَدّ شيئاً مقارنة بهوسي بكِ أيتها الحورية؛ فخُصلاتك الهاربة من سِجنها.. المتدلية على وجهكِ أعظم عندي من كلِ شلالاتِ الأرض. عيناكِ الدعجاء تفترسني، تتوهني، تُحيني مرةً لتقتلني عشرات المرات. شفتيكِ المزمومتين.. آآآه، وردتين حمراوين تنتظران من يقطتفهما، أتخيل شفتاي تتحول إلى فراشات، تُحلق نحوكِ، لتحط ببطء عليها وترتوي من عبيرها الفواح. صدقيني.. قبلكِ لم أُولد، لم أدري كيف يمكن لهذه الحياة القانِطة أن تكون حديقة غنّاء، وبعدكِ لا أريد أن أكون. أريدكِ بقربي دائماً أبداً لِأشعُر بأنفاسي.
عندها احمرت وجناتها. ابتسامة خجِلة ارتسمتْ على شفتيها، ثم بغنج أُنثوي همستْ له:
- أنا أحبك.

يخرج من ذكرياته، ويعود للجسد المُسجى أمامه.
(3)
يضربها برفق على خدودها مُحاولاً إيقاظها. يفتح عينيها بأصابعه، ويُحدق فيهم؛ أعين بيضاء خالية من الحياة يُغلفهم الموت. لقد كانت في السابق كالسهم تخترق قلب كل من ينظر لهم. كيف انطفأ ذاك اللهيب، ذاك الشغف، وذاك المرح. عقله يمتليء بمئات المشاهد الحية؛ يراها تُمسك يده، تجره خلفها وهما يترجلان عن سيارتهما، يُخبرها أن هذا خطر على حياتهم فالخرطوم تُسيطر عليها مليشيا مُسحلة تفتح نيرانها على كلِ من تقع عليه أعينهم، عليهم العودة سريعاً للبيت. لكنها تتجاهل صوته وتواصل سيرها، تقف على حافة النيل وتصيح: “أُشهدك أيها النيل أنني أحب هذا الرجل، اليوم كانت خطوبتنا. لسوف نعيش كلِ ثانية كما ينبغي، ولن يعرف الحزن طريقه إلينا بعد الآن. هل تسمعني أيها النيل”. التفتتْ نحوه والدموع تملأ مُقليتها، أبصر الفرح داخلهما، نشوة الإنتصار على كلِ العقبات التي وقفت في طريقهم. وضحكتْ كما المجانين، بكتْ كمن فقد عزيز عليه، رقصت كالثمِل، وقرفصت رجليها على الأرض تبكي مرة أُخرى وهي تنظر للسماء.

يعود.. يُمعن النظر في العيون البيضاء وهو يُقارنها بما ترسمه له المُخيلة من مشاهد. يرخي قبضة أصابعه عنهم.. ويزيح العظاء عنها أكثر، يرى الثُقب على صدرها، طريق أحدثته رصاصة عابرة. ففي يومهم ذاك، حينما عادت من تأمل السماء وهمّت بالوقوف سمِع صوت طلقة تلوث الفضاء..
كانت هي الفريسة، وتهاوى جسدها.
(4)
“لا بأس. طالما أنتِ تتجاهلين صوتي، سوف أحملكِ.. لا بُدَّ وأنكِ تَعِبة. هيا بنا”. قال لها، ورفعها بين يديه. اندهش الطبيب الذي يقف معه في المشرحة، وصاح فيه: “إنت بتعمل في شنو يا مجنون”. لكنه تجاهل الطيب وهو يهذي: “لا بُدَّ وأنكِ تَعِبة، سوف أحملكِ، لكن إياكِ والتعود، لأنكِ ثقيلة جداً. وبدأ يقهقه.. لا بُدَّ وأنكِ تَعِبة، سوف أحملكِ، لكن إياكِ والتعود، لأنكِ ثقيلة جداً. ويُقهقه.. لا بُدَّ وأنكِ...”.

ـــ
خاتمة:
التقيتُ بالطبيب قبل إسبوعين من الآن، وأخبرني بأنه قد وجده بين إحدى أزقة السوق العربي، منكوش الشعر، رث الثياب، يحمل مخلاة على ظهره. قال لي: استوقفته، حاولتُ أن أُحادثه لكنه فرَّ مبتعداً يتفحص أوجه المارة وهو يُردد: لقد قتلوها، لقد قتلوها.



الخرطوم
17 مارس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى