عواطف أحمد البتانوني - شَمْعَة سَاكْتَه.. قصة قصيرة

كانتْ تقف ضمنَ الطابور الطويل.. الطويل.. الواقف بمحاذاة الرصيف تنتظر دورها علّه يأتى قبلَ أن يُغلَق الشُّباك. كانت ضئيلةً ممصوصةً كأنها عُودٌ يابسٌ في أرضٍ جدباء، لم ينزل عليها الغيث منذ زمان . اجتهد الزمان في رسمِ عَشَراتِ الخُطوط الدقيقة حولَ فَمِها وَفَوْقَ جَبهتِها وَخَدَّيها، وزاد في اجتهاده، فأطفأ نُورَ أَحَدِ عَينيْها، بَلْ أَغْلَقها تَماماً.. تغوص في جِلبابِها الواسعِ وَطَرْحتِها السَّوداء التي رَقَّتْ من طولِ ما الْتَفَّتْ حَوْلَ رَأْسِها تَحْتَ الشَّمسِ الْحارِقة والجَوِّ المُترب والسحابة السوداء.. كانت الأجساد تَعْتصِرُها، والأيْدي تَدفعها كلَّما تَقَدَّمَتْ لِتَتَراجَعَ مرة أخرى إلى آخر الطابور، وكأنما يتقاذفها موجُ البحر، يتصارعُ بعضُهُم ويتعاركُ، يَسبُّ ويَلْعَنُ الحُكومة، وبعضُهُم يلْعن الفقرَ والعيشَةَ التي يَعيشونَها، وهي صامتةٌ تَحْتضِنُ أوراقَها بِقُوَّة، وتُجاهِدُ للوصولِ إلى الشُّبَّاك، وكلُّ ما تعرفُه أنها بدونِ هذا الطَّابور وهذه الوَقفة التي تتكرر منذ ثلاثة أيام، لن تحْصُلَ على تَموينِ الأُرْزِ والزَّيْتِ والسُّكَّر الذي تحصل عليه منذ سنوات. كانت تسألُ مَنْ حولَها أحياناً: "ـ طَبْ ما أنا بَصْرفْ التَّموينْ منْ أَيامِ أُمِّي وَأَبويا إيه اللِّي جَرى؟! حَدّْ يِفَهَّمْنِي يا سْيَادي، الرُّزّ صحيحْ نُصُّه حَصَى، والزِّيتْ عَكر والسُّكَّر مليانْ قَشّْ، بَسّْ أَهُو ساتِر اللِّي زَيِّنا!! " يَرِقُّ لها قلبُ رجلٍ مُتَنور، فَيُحدثها عن الرقم القَومي وتجديدِه، وإنَّ منْ غيَّرهُ سوفَ تُوقف الحُكومةُ صَرْفَ التموينِ له وسوف توقف الدَّعْمَ لأنَّ البطاقةَ الشَّخصيةَ القديمةَ (راحتْ عَلِيها). كلامٌ كثيرٌ لمْ تَفْهَمْ منهُ شيئاً.. تقولُ المرأةُ فى اسْتِسْلام : "والنبي، الحكومَة بتتعبْ مَعانا قَوي.. ما إحْنا بَقينا يَامَه، ربِّنا يْخَلِّى لنا الحُكومة..". تردُّ المرأة ُ المُكتَنِزةُ التي أمامَها: " ربنا يْخَليك إنْتِ.. قلبِكْ طيِّبْ." أخيراً أصبحتْ وجهاً لوجه أمام الموظَّف الذى يَزفُر ويُرْغِي ويُزْبِد، ويَلْعَنُ الطابورَ ومنْ فيه.. " واللى مُشْ عاجبُه ياخويا يْرُوحْ ". قَدَّمتْ الأوراقَ بيدٍ ضعيفةٍ مرتعشَة ومعها "المعلوم" الذي همسوا لها أن تضعهُ وسَطَ الورقِ "بالذوق" وإلا سَوفَ تأتي في الغد وبعد الغد.. يُمعنُ الرجلُ النظرَ في الأوراقِ ثُمَّ يَسألُها بوجهٍ متجَهِّم :

ـ "اسمكْ إيه يا وْلِية؟

ـ اسمَ اللهْ عَليكْ يا خُويا.. الاسمْ عِنْدكْ.

يرد زاعقاً: " حَتِتْلمضي مْعايا.. اسْمكْ إيه؟

تَردُّ المَرْأةُ مُنْكسِرةً وَكأنَّها تَرْتكِبُ جريمةً: اسمي : شَامْعَة ساكْتَة البُرَعِي مْحَمدين

يتأكد الرَّجُلُ مَرَّةً ثانيةً:" اسمكْ لِوَحْدكْ شَمْعَة سَاكْتَه!!

تَقولُ بصوتٍ مُرْتَعِش: " والمُصْحَفْ يا خُويا دَه اسْمي.. "

يَنْفَجِرُ النَّاسُ في الطَّابورِ الطويلِ ضاحِكين، وكُلَّما سَألَ أحدهم البعض، أجابَهُ عن سرِّ الضحك، يضحك هو الآخر متفكهاً ناقلاً الصورةَ عن من خلفَه . ولأن شر البلية ما يُضحك، ولأن الناسَ فى بلاء وعذاب منذ أيام، فقد اجتاحهم زلزال من الضحك، وراحوا يثرثرون ويتفكهون .

قال أحدُهم: "صحيح أسامي بلاش فى بلاش.. مْنورة والله ياست شمعة..." قال الآخر: " انت شمعة طبْ ساكته ليه يا شمعة ؟ ما تنورينا بكلمتين.. " يزفر أحدهم : " ما تخلصينا وتطلعي خلِّي الدنيا تنور " . لم تنطق المسكينة حتى تسلمت الرقم، وقبضت عليه فى صرتِها ثمَّ خرجتْ تجر طرحتَها من بين المناكب والأقدام. جلست على الرصيف تلتقط أنفاسَها والدموعُ تنحدرُ من عَينيْها، ثم هزت رأسَها وهي تقول: " الله يسامحك يا امَّهْ كل ما روح حٍته يِتمسخروا علي، الله يسامحكم.. مقبولة منكم.. ما أنتم غلابة زيي." تذكرت زمان عندما ذهبت إلى المدرسة الأولية، وضحك عليها العيال.. سألت أمها: " ليه سميتونى كدة يا أمهْ؟ " قالت الأم: " أمر ربنا يابنتى شوفى.. جاني الوجع والغارة شغالة أيام حرب الكنال.. قالوا اطفوا النور.. اطفوا النور، كنت تعبانة قوي، والداية بتصرخ، الحقونا بشمعة يا خلق.. الرأس فى إيدى، كل ما يولعوا الشَّمعة، ينادوا من بَرَّة.. اطفوا النور، يطفوا الشَّمعة، الداية تصرخ، العيل فى إيدى ولِّعوا الشَّمعة يا ناسْ، ونزلتِ يابنتى ساكْته مانطقتيشْ. كل اللي فى المطرحْ ضحكوا وقالوا: "البت نزلت ساكته من الخضة "

قالت الداية: "عمري ما شُفت ولادَة زَيّ دي.. خلاصْ سَمُّوها "شَمْعَة ساكْتَة "

قالوا لها: "كلامك ماشى.." وكانَ أمرُ ربنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى