السيد الطنطاوي - الخائفة.. قصة قصيرة

تلك السيدة الكبيرة في السن، أم وأخت لابنها فادي. تعامله مثل معظم الأمهات المصريات كأنه طفل صغير، تخشى عليه من ابتعاده عنها ولو لأمتار قصيرة. لم أدرِ ما هذا الخوف الشديد عليه من أن يبتعد عنها هذه الأمتار البسيطة، رغم تجاوزه سن الأربعين بعامين.
لم يتزوج إلى الآن.. برر ذلك بخوفه من أمه التي سيطرت عليه سيطرة تامة، حتى ضاق بهذه السيطرة التي تكاد تخنقه في كل مكان يذهب إليه ويصطحبها إليه، فأصيب بـ "فوبيا سيطرة المرأة"!!، خشي معها أن يتزوج بامرأة تشبهها، تتحكم فيه هي الأخرى وتسلسل ما تبقى من حياته، التي لم تستطع والدته السيطرة عليها. رغم أني أيقنت أنه قد تسلسل بالكامل، ولم يعد لزوجته المرتقبة أي دور في ربط حياته أو سلسلتها، إلا إذا قامت بربطه وسلسلته بشيء آخر وهو "العمل"، أو الاستعانة بدجال أو مشعوذ أو عراف أو شيخ، فتستطيع تلك الزوجة المرتقبة أن يكون لها نصيب معتبر في فادي، مثل نصيب أمه أو أكثر من هذا النصيب.
التقيتها هي وابنها في مقر الشركة التي اشتريت منها سيارتي، وهي الشركة التي أقوم بالصيانة الدورية فيها، وكان اليوم الذي التقيتها فيه وابنها فادي، هو يوم الصيانة الدورية للسيارة..
بعد أن انتهيت من تخليص الإجراءات الخاصة بالصيانة من أمام المهندس المختص، منحنا وقتا يمتد لثلاث ساعات حتى استلام السيارة. انتحيت جانبا أنا وزوجتي، وجلسنا على طاولة دائرية صغيرة بكرسيين. جلسنا.. وطلبت من زوجتي أن تقوم وتذهب إلى "الكافية" لإحضار شرابا وساندويتشا لكل منا، فالمعروف في الشركة أنها تمنح العميل "كوبونا" يستطيع من خلاله الحصول على مشروبين ساخنين وساندويتش واحد. قامت زوجتي وابتعدت قليلا، لتأتي سيدة كبيرة في السن هي وابنها وتجلس على الطاولة القريبة من التي نجلس عليها أنا وزوجتي، جلسا بعض الوقت ثم قام ابنها فادي ليتفرج على السيارات الجديدة المعروضة في صالة الشركة، ومكانها لا يبتعد كثيرا، بل لا تتعدى المسافة بين مكان جلوسهما والسيارات المعروضة بضعة أمتار، إلا أن ما لاحظته أن السيدة أم فادي أشارت إلي بكلمة بسيطة، وقالت لي: خلي بالك من الشنطة والحاجات الموجودة على الترابيزة. قلت لها: حاضر..

ابتعدت قليلا لتبحث عن ابنها الذي توارى بعيدا، وبدأت في النداء عليه: يا فادي.. يا فادي.. إلا أنه لم يرد عليها.. توارى بعيدا ولم يظهر لها.. فجاءت إلي وشكرتني على أنني أخذت باللي من شنطتها، وممتلكاتها المعبأة في كيس وموضوعة على الترابيزة الخاصة بهما..

استأذنتني مرة أخرى لتذهب وتحضر مشروبهما الساخن والساندويتشين، وطالبتني بأخذ باللي من الحاجات الموضوعة على الترابيزة. قلت لها: حاضر.

بعد مغادرتها مكان الجلوس، إذا بفادي يظهر ويجلس على الترابيزة منتظرا والدته، ثم ظهرت زوجتي ومعها الساندويتشان والمشروبان الساخنان، نظر إلينا الابن ووجه إلينا حديثه بالقول: إنها تخشى علي بشكل يزعجني وتفعل معي ذلك دائما أمام الناس.
"معهلش إنها والدتك وهي ست كبيرة". ردت عليه زوجتي.
قال: طريقتها تزعجني وتحرجني أمام الناس، إنها بهذا العمل جعلتني أفكر في أن لا أتزوج، وقد وصل عمري الآن إلى أكثر من 40 سنة، ولا أريد فعلا أن أتزوج، لأن الرجل لا يحب أن "تربطه أو "تسلسله" أو تتحكم فيه امرأة، اسألي زوجك.. قلت له صحيح!!.
ردت زوجتي بسرعة: اسأله هو، فأنا لا أتحكم فيه ولا أربطه بشيء، ونظرت إلي وقالت: مش كدة. قلت في نفسي: كدة.
توجهت إليه وقلت: رغم أنك تقول إن سنك وصل إلى ٤٢ سنة، إلا أن كثيرا في هذه السن يتزوجون، وربما أكبر منك سنا تزوجوا.
قال: القطار فات، والمشكلة ليست في السن وحده، وإنما في والدتي أيضا التي تخاف وتغار علي بشكل أعاني منه.
قالت زوجتي: من الممكن أن توفق بينهما وتحل الإشكالية.
بأسى وهو يشير بيده إلى كيس بلاستيك يضم أدوية وعقاقير، قال: المشكلة الأكبر أنها مريضة بالروماتويد.. يجعلها ذلك أشد تعبا نفسيا وجسديا، ولا تؤثر فيه هذه المسكنات، ولا يمكن لزوجتي أن تتحمل ذلك، يمكنني أنا تحملها، لكن غيري لا يتحملها.
لا تنس نفسك.. قلت له.
إنني أنسى نفسي كثيرا حتى في الشغل.. فأنا بسيط جدا في تعاملي مع الموظفين والعمال، رغم أنني طبيب بيطري، وهناك زملاء يتعاملون مع الموظفين والعمال بشكل متعال، ولذا فإنهم حصلوا على وضع أفضل مني بالشركة، بسبب ترفعهم وعدم تواضعهم واحتفاظهم بـ "برستيجهم"!!
جاءت أم فادي وشكرتنا مرة أخرى على أننا "أخذنا بالنا من شنطتها وحاجاتها هي وابنها". جلست على كرسيها، ونظرت إلينا شاكية: إنه لا يسمع الكلام، ولا يرد علي عندما أناديه، وربما يختفي مني في عدد من الأماكن التي نذهب إليها.. أتعقبه وأناديه لأطمئن عليه إذا غاب عن عيني.
قلت لها: ربما كان مشغولا عند الموظف، أو يقوم بشيء مهم، فلا تغضبي منه إنه ابنك.
قالت: إنه ابني الذي يعيش معي في مصر. له أخ هاجر إلى أمريكا منذ فترة طويلة، وأعيش أنا وفادي مع بعض، هو لا يريد الزواج. رغم إلحاحي المتكرر عليه إلا أنه يرفض أو يراوغ في هذا الأمر.
نظر إلينا فادي، وظهرت عليه أمارات التساؤل التي لم يبح بها، وبالتأكيد تقول: كيف لي أن أتزوج، ومن أين لي بجزء نفسي آخر تتحكم فيه زوجتي؟!.. ساعتها اتصل المهندس المختص طالبا مني التوجه إليه، للحصول على كشف نفقات ورسوم الصيانة، والتوجه لدفعها بخزينة الشركة ثم التوجه لاستلام السيارة بعد خروجها من المغسلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى