حاميد اليوسفي - الجرعة الثالثة..

لم تنتظر أمام مكتب مغلق حتى يفتحه عون سلطة ، وتسأله عن موعد التلقيح ومكانه . كنتَ جالسا في المقهى ، فتحت الهاتف وجدت رسالة تقول :
ـ نُخبركم أنه بإمكانكم الآن أخذ الجرعة 3 في أي فضاء تلقيح ؟
قلت لصديق يجلس بجانبك :
ـ أفضل أن آخذ جرعة ثالثة ، لكن من نفس اللقاح .
تناول قنينة الماء ، وملأ كأسا أمامه ثم قال :
ـ تلقت ابنتي منذ أربعة أيام جرعة من لقاح أسترازينيكا من المستوصف القريب (وأشار إلى اليسار) ، ولكني لا أرغب مثلك في جرعة ثالثة ، أظن أنني لست بحاجة إلى ذلك .
استفدتَ منذ مدة من جرعتين من نفس اللقاح بالمجان . وقبل التوجه في منتصف النهار إلى البيت ، قررت صُدفة أن تُعرّج على المستوصف ، وإذا لم تجد به اكتظاظا أخذت الجرعة الثالثة ، وعدت إلى البيت . لم تفكر في أي مضاعفات . قال بعض المختصين المشجعين على التلقيح ، قد يحدث معك الشعور في البداية بحُمى خفيفة ، وقليل من الصداع في الرأس ، وقد لا يحدث شيء من ذلك .
ـ أخذت الجرعة الأولى ، ثم بعدها الجرعة الثانية منذ أكثر من ستة أشهر ، ولم يحدث معك شيء يضر بصحتك ، كما ادعى العديد من المتخصصين في التشكيك .
من ينتابه خوف ، وتسرب إلى عقله بعض الشك ، يبرر ذلك بأن بروفيسورا متخصصا في علم الأوبئة أو البيولوجيا يعمل بجامعة مشهورة في أمريكا أو بريطانيا ، لا يمكن أن يضحي بوقته ، وسمعته العلمية ، وينجز فيديو للتشكيك هكذا في جدوى التلقيح ؟
الغريب أن الناس عندنا تثق في الرقاة ، وصغار الدجالين بشكل أعمى ، وبعضهم يتقاضى ضعف أجر طبيب مختص ، ولا تريدهم أن يثقوا في بروفيسور ، يدرس بجامعة مشهورة في أقوى بلدان العالم ؟
أحيانا يتشابه عليك البقر !
دخلَ من الباب الرئيسي . سأل شرطيا حول توقيت العمل بالمركز ، ثم أخبره برغبته في أخذ الجرعة الثالثة .
اختفى للحظة قصد استفسار ممرض أو طبيب في الداخل عن مكان الجرعة الثالثة ، فعاد وأجاب بيقين
ـ الجرعة الثالثة لا توجد بأي مستوصف ، لكنها متوفرة فقط في ثلاث قاعات مغطاة كبرى بأحياء الداوديات وسيدي يوسف والمحاميد .
وهو عائد إلى البيت راكبا دراجته العادية أحس بنوع من الغُبن لأن هذه القاعات بعيدة عن الحي الذي يسكنه ، فطمأن نفسه ، بأنه ما دام لا يعاني من نقص في المناعة ، أو مرض مزمن ، فلا داعي للتسرع .
ـ ومن قال بأنك لا تعاني من نقص في المناعة ، أو من مرض مزمن ؟ هل أجريت فحوصا طبية ، وأثبتت بأن جسمك سليم ؟ أنت فقط تعتقد ذلك !
في صباح اليوم الموالي ، وهو يستعد للخروج إلى المقهى رن الهاتف . صديقه محمد على الخط ، يسأله إذا كان يرغب في أخذ الجرعة الثالثة ، فيمكن أن يمر عليه ، ويأخذه معه إلى القاعة المغطاة . رد عليه بالإيجاب من غير أن يأخذ مهلة للتفكير . أحيانا مع محمد يفكر بمنطق (سقط الحُك* ، ووجد غطاءه)* . فهو أستاذ متخصص في علوم الحياة والأرض ، ويفهم في الأوبئة ، ومكونات اللقاحات ، بالإضافة إلى تجربته الكبيرة في العمل النقابي .
عندما وصلا إلى القاعة تسلم كل منهما ورقة صغيرة تحمل رقما . دخلا من الباب الرئيسي . بعض أعضاء لجنة التنظيم يشرحون للناس أين يجلسون . الجناح الذي على اليسار يوجد به خمس ممرات مخصصة لأبناء وبنات المدارس أقل من 18 سنة المصحوبين بأوليائهم . والجناح الثاني على اليمين يوجد به خمس ممرات أيضا ، اثنان للجرعة الثالثة ، والباقي للجرعة الأولى والثانية .
انتظرا حوالي عشرين دقيقة . جلسا فوق كرسيين يفصل بينهما متر تقريبا ، ويراقبان سير العملية . توافد بعض الأجانب أيضا وجلسوا على مقربة منهما . لاحظا أن بعض أعضاء اللجنة التنظيمية وهم غالبا شباب من أعوان السلطة أو ممرضين ، يخرقون النظام المعمول به ، ويتوسطون لبعض معارفهم حتى لا يأخذون الصف وينتظرون مثل باقي المواطنين . بمجرد ما يتحدث أحدهم مع امرأة أو رجل ، يأخذ منه البطاقة الوطنية ، ويقف بجانب الموظف الذي يدخل المعلومات إلى اللوحة الالكترونية ، ويوهم من ينظر إليه بأنه يتحدث مع زميله ، ثم يسرب له البطاقة .
لا أحد يتدخل ليحتج ، ربما لأنها حالات محدودة ، أو لتفهُّم طبيعة العقلية المغربية .
لم يعجبه هذا السلوك ، لكنه سأل نفسه :
ـ لو كنت مكان ذلك العون أو الممرض ، ودخلت عمتك أو خالتك أو جارتك ، وطلبت منك أن تقف معها لتقضي حاجتها بسرعة ، هل كنت ستطلب منها أخذ الصف حتى يحين دورها ؟ ولو فعلت ماذا كان سيكون رد فعلها ؟ أكيد أنها ستفضحك مع العائلة والجيران . وستقول لهم :
ـ لا خير فيه .. لم يعمل بحق الدم والقرابة ، نظر إلي كأنه لا يعرفني .. يشويني فيه .. تنكر للملح والطعام .. لا يمكن الاعتماد عليه في الشدائد !
دفعت بطاقتك ، طلب منك الموظف أن تختار بين نوعين من اللقاح . فوقع اختيارك على لقاح فايزر .
لم تصب طيلة النهار بأي حمى أو صداع في الرأس ، فقط أحسست بألم خفيف في ذراعك الأيسر عندما نمت في الليل .
وأنت تسحب جواز التلقيح من الانترنيت في اليوم الموالي ، تذكرت نادرة نشرها صديق تقول :
ـ في الجرعتين الأولى والثانية تسلمنا جوازا ، وفي الثالثة سنتسلم الفيزا ؟!؟!
لا زالت الرسائل المكتوبة والمصورة في الخاص لا تتوقف عن التشكيك في جدوى الجرعة الثالثة . سألت نفسك :
ـ هل هناك دولة في العالم يمكن أن تؤذي مواطنيها من أمن ودرك وجيش وصحة وموظفين وطلبة وأطفال وتجار وصناع وعمال وفلاحين ؟
ثم قلت :
ـ يا ودي أطلقوها تسرح* ، واذهبوا لأخذ الجرعة الثالثة !



المعجم :
ـ الحُك : يقصد به في اللهجة المحلية العُلبة
ـ يا ودي أطلقوها تسرح : تعبير شائع في اللهجة المحلية يطلب من الناس أخذ الأمور من جوانبها السهلة .
ـ (سقط الحُك ، ووجد غطاءه) : مثل شعبي يضرب للتوافق والانسجام .


مراكش 11 أكتوبر 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى