ميرفت الخزاعي - دموع خضراء.. قصة قصيرة

الذنبُ ليس ذنب أخي حين اعتبر النباتات مادةً صالحةً للاستثمار، فراح يعتني بها حباً ورغبةً بجمع الثروة والمال.
فنحن في واقع الحال محصلة ما يزرعهُ الآخرون فينا: أهلنا ومحيطنا. ولسنا سوى نتيجة لأفكارهم، ظنونهم، تجاربهم واعتقاداتهم، وإلى أن نعي هذا كله و نصبح جاهزين لنقرر ما نريد أن نكونه، حتى يكون قطار العمر قد ولّى وفاتنا.
كان هدفُ والدتي تعليمنا المسؤولية والاعتماد على النفس، حين أهدتنا أنا وأخي ادواردو شجيرتي ورد في بداية العطلة الصيفية، ولمّا نتجاوز الثامنة من العمر. طالبة منا الاعتناء والاهتمام بهما، لتمنحنا في نهاية هذا الطقس التربوي مكافاةً إن أتممنا عملنا على أكملِ وجه، ولم يخطر في بالها أن ولدها الصغير سيتحول إلى رجل أعمال، ينظر للنباتات على أنها صناديقُ نقودٍ حية.
«إذا أضفتَ قطرةً من المحلول المغذي للنباتات ازدادت نمواً وأينعت».
لذا ظلَّ أخي يضاعفُ عدد القطرات، وكلما برعمتْ شجيرة الورد خاصته، يسرع الى قطع البرعم وزرعه في أصيصٍ ثانٍ. أما أنا فأظن أن الماء والهواء والغذاء ليست كل ما يحتاجه النبات بل الحب أيضاً، لذا أخذتُ أقضي وقتاً أطول بمراقبة نبتتي، أمسح الغبار عن أوراقها، وإسماعها شيئاً من الأغاني والموسيقى، خلافاً لأدواردو الذي كان متحمساً لرؤية نبتته تُزهر في أقصر وقت. لكن الأمر لا يجري دائماً كما نرغب ونتمنى، فقد شعر أخي بالملل والضجر بعد أيامٍ قليلة، فقد أهملَ نبتته منشغلاً بألعابه والخروج مع أصحابه، مما جعلَ أشواكها تتشبثُ بأطراف ثيابي كلما مررت بها وكأنها تستسقي العطف.
رأفتُ بحال أوراقها التي بدأت تصفرُ وتذبل، ورحتُ أروي عطشها وجفاف تربتها، لكن والدتي طلبت مني الكفَّ عن ذلك.
ـــ ستموت!
ـــ لا بأس، أخوك هو المسؤول عنها.
بعد أشهرٍ استدعتنا والدتي، وحالما دنت من شجيرتي،أثنت على عملي ونقدتني عشرة دولارات. تقدّم ادواردو فاتحاً كفيه بسرور كبير لكنها بادرته بنظرةٍ أدركَ من خلالها أنها غير راضية عنه تماماً، وأعطته مبلغاً أقل اغتاظَ أخي، وودَّ لو قال لأمي بأنها وعدتنا بالمكافأةِ ذاتها، لكنها أجابته:
ـــ أنت لم تعتنِ بنبتتك كما يجب، انظر إلى أوراقها الذابلة والحشرات التي تعبثُ بها.
عندما كبرنا، قرّر أخي شراء قطعة أرض، وحوّلها لمستنبتٍ لمختلف أنواع النباتات. لم يكلّفْ نفسه عناءَ القراءة والاطلاع عن الموضوع، فقد كانت شهادة إدارة الأعمال التي حصل عليها تكفيه، ولم يلزمه من أجل تحقيق ما يصبو إليه، سوى تعيين عددٍ من البستانيين، وتخصيص عامل لكل صنف من النباتات يكون مسؤولاً عن الاهتمام والعناية بها، وآخرين يراقبونهم ويتابعون عملهم: سقيها، تقليب وعزق تربتها، اضافة الأسمدة، مكافحة الحشرات، تشذيب وتقليم أوراقها وتغيير أوعيتها.
كان أخي يزورُ المشتل كل فترة ويُقيّم العمل، فيكافئ العامل الذي حافظَ على أشجاره ونجحَ بتكثيرها من دون أي خسارة. كنت أرافقه في جولاته التفقدية، لولعي بالنباتات واستمتاعي بمشاهدتها. وفي يومٍ ما سمعته يعنفُ أحد العمال وقد بانَ الغضبُ على ملامحه:
ـــ سأخصمُ من راتبك، فبسبب إهمالك فقدنا عدداً من نباتات الظل.
انتبهتُ لعاملٍ عجوز لا يبارحُ القسمَ الخاص به، يحاورُ نباتاته وبيده كتاب، وما إن يمر في أروقةِ المشتل، حتى يُسمع حفيف أوراقها وكأنها ترحبُ بقدومه. أنبهرَ أخي بنضارتها وخضرتها؛ ومنحه علاوةً، مما أثار غيرة وحسد بعض العمال، خاصةً أن أغلبَ الزبائن يفضلون نباتاته الوارفة.
في يومٍ من الأيام شاهدتُ العاملَ العجوز ينتحبُ أمام أصص نباتاته، ثم توجه لعاملٍ تفوحُ من ثيابه وأنفاسه رائحةُ السجائر وقبضَ على ذراعه.
ـــ لقد قتلتَ أطفالي.
استغربَ الآخرُ كلامه وتراجع كمن أصابه مسٌّ.
ـــ ما الذي تتحدث عنه؟!
ـــ أنت تنفثُ سمومك في وجه نباتاتي، النباتاتُ كائنات حية.
ضحكَ العاملُ بسخرية:
ـــ لابد أنك منزعج لفقدك بضعة دولارات، لا تقلق ستعوضها الشهر القادم.
صائحاً خلفه.
ـــ وماذا عن الوقت والجهد اللذين بذلتهما للعنايةِ بها!
انسحبَ حزيناً كمن يؤبن أحد أبنائه.
مضت فترة من الزمن لم أشاهد فيها العامل العجوز، وحين سألت عن سبب غيابه، أخبروني بأن حمى أصابته وألزمته الفراش.
بعد فترة فوجئ العاملون حين دخلوا قسمه، فعلى الرغم من قيام أخي بتكليف بستانيٍّ آخر لإكمال العمل، فإن النباتات قد نفضت أوراقها تماماً، وكأنها في حداد على روح ذلك العامل.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى