محمود سلطان - في حضرة الإمام

صف سيارته بالقرب من دار الإفتاء، مرق من أمام مسجد قايتباي، وقف هنيهة على ناصية شارع الإمام، شهد جمعًا غفيرًا، يحملون نعشًا ملفوفًا بجبة خضراء، تشبه ثياب الكهنوت، تراكضوا خلفه رجالًا ونساءً، عبروا به شارع صلاح سالم، وهناك.. أنزلوه وقد تبلل الكفن بالدموع، التي انثالت من العيون، انثيال المطر الهطول.
شاهد سبعة رجال وقفوا على القبر، وفي يد كل منهم ورقة، وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: مَن يبدأ بإلقاء قصيدته؟!
انتصب من بينهم أولهم، رجل مهيب الهيئة، يعتمر طربوشًا أحمر، تتدلى من جانبه الخلفي، حزمة من الخيوط الحريرية السوداء، بشارب كثيف مفتول، استل من جيب معطفه الداخلي ورقة، ثم طفق يلقي قصيدته. همس لمَن يقف بجواره متسائلاً: مَن هذا الرجل؟!
حدق به، وقد علت سحنته سيماء الاستغراب: كيف لا تعرفه؟! إنه الأديب واللغوي حفني بك ناصف، شريك المتوفى، في تحرير “الوقائع المصرية” ودرة تاج القضاء في مصر. أخرج من جيب بنطاله، منديلًا قطنيًا جفف به العرق، الذي تفصد من على وجهه خجلًا: معذرة يا سيدي فأنا خرجت من رحم بلد تجهل حاضره، فكيف تطلب مني تكبد مشقة البحث عن ماضيه؟!.
بعدها سمع صوت رجل ثان، وكأنه أحسن خلق الله إنشادًا للشعر، يلقي ما جادت به قريحته، مشهرًا إصبعه في وجوه من شهدوا الجنازة محذرًا.
أخذته حلاوة الإلقاء إلى غفوة من خدر ناعم، وانتزعت طلاوة النظم آهات الإعجاب مجللة في قبو صدره، سمعها المشيعون. التفتوا إليه. رمقوه بنظرات توبيخ قاسية، وطالبوه بالتأدب في حضرة الإمام.
تمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه، ترك مكانه ودلف متسللًا ليختفي بين الزحام، اقترب من كهل خط التفجع والأسى قسمات وجهه، وتراود الدموع أجفانه المتعبة، ثم سأله: مَن المنشد؟! تفرس وجهه ثم تجاهله متأففًا!
شد جلبابه بلطف بأطراف أصابعه: لم تُجبن يا سيدي! رد عليه بجفاء: لو كنت مصريًا ما سألت! ألم تعرفه؟!، إنه شاعر النيل. ابتسم متهكمًا: أعرف النيل ولكني لا أعرف أن للنيل شعراء وحاشية. فسمعه ينشد بصوت تهدجه ضآلة الشيخوخة:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله …. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
هز رأسه وقد علت محياه ابتسامة طفل ساذج ثم سأله: مَن قائل هذا البيت البديع؟! رمقه طويلاً وقد اصطكت أسنانه من الغيظ وارتجف جسده من الغضب وقال بحدة: أنت أصلًا لا تعرف حافظ إبراهيم، فهلا أتوقع أن تعرف مَن هو أبو الطيب؟.
فجأة ضج المكان بالهمهمة، عندما تقدم رجل قصير القامة، ومشى بتؤدة مستقبلًا شاهد القبر، اشرأبت إليه أعناق الناس، وتدافع آخرون متحلّقين حوله، أخرج ورقة من جيب معطفه الأسود الفاخر، نظر فيها هنيهة، ثم حدق في الخلائق مرتجلًا.
مال برأسه هامسًا في أذن جاره: مَن هذا الكهل القصير، الذي أحرق وجهاء القوم، بخورهم على عتباته؟! ومَن المتوفى الذي يمم العالم وجهه شطر مقبرته وكأننا يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!
أطرق قليلًا وهو يتفرس وجهه، ثم سأله مستغربًا: مَن أنت يا فتى؟ ومن أين جئت؟! قال: أنا طالب علم! جئتكم من عام 2021. خطفته سنة من صمت حزين، وشعر بانقطاع الأمل في شروق شمس يوم غد، ثم انفجر ضاربًا كفًا بكفٍ، بعدها رفع يده إلى السماء ولسانه يلهج بالدعاء: “اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرًا منها” .
استفاق على صوت صاحب كشك السجائر الرابض في مدخل الضريح: علبة السجائر يا أستاذ، التقطها ثم دلف إلى داخل الحوش، تعثرت قدماه في زجاجات البيرة الفارغة، ورائحة الحشيش تسد رئة الفناء، وكل ركن مأوى للباحثين عن المتعة الحرام، واختفى المقام تحت أكوام الزبالة.
* نشر على موقع الكتابة الثقافي






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى