ياسر جمعة - صورتنا العميقة

وجدتُني دون الخامسة من العمر تقريبًا، هناك، في مدرسة قريتي البعيدة، وحولي أطفال في مثل عمري، حيث كنا ننتظر، وقد لفنا الطنين الودود، دخول مُدرِّس الحصة التي قد جهَّزنا كتابها على المناضد الصغيرة أمامنا، وما إن دخلت علينا خديجة بكامل ثيابها صمت الطنين، ووقفنا، لأكتشف مذهولاً أننا عرايا تمامًا، صبيانًا وبناتًا، إلا من قناعٍ سماويِّ اللون يحجب نصف الوجه! لذا توقعتُ أن تنهرنا، بل توقعتُ أيضًا أنها ستعاقبنا بالضرب، غير أنها لم تفعل، وكأنها لم تلحظ عُريَّنا، وضعت حقيبة يدها وما تحمل من كتبٍ على المكتب داكن اللون في مقدمة الفصل، وأغلقت الباب بالمفتاح بلغة جسدٍ حذرةٍ، ثم عادت إلى منتصف المسافة، ما بين الباب والنافذة المقابلة له، وقالت:
"جلوس".
جلسنا وأنا أتساءل مندهشًا: متى صارت كبيرة هكذا وهي التي كانت طفلةٌ مثلنا يوم أمس؟!
قالت:
"صباح الخير".
رددنا في صوتٍ واحدٍ:
"صباح النور".
دراتْ نصف دائرة، مسحتْ ما كان على "السبورة" وكتبتْ بخطٍ كبيرٍ "صورتنا العميقة" ثم واجهتْنا مرةً أخرى وهي تقول:
"إخلعوا الأقنعة، وطلَّعوا كراسة الرسم".
نظرنا في عيون بعضنا في ريبةٍ، وقلنا في صوتٍ واحدٍ ما يلقنوننا به آباؤنا دائمًا:
"الموتُ في كل نفَسٍ نتنفَّسه يا مس".
ابتسمتْ قائلةً:
"والحياة أيضًا في كل نَفَس".
وحملت سلةَ المُهملات بين يدَيْها ودارت علينا، واحدًا تِلوَ الآخر، كي يُلقيَ كلُّ منا قناعه فيها مسرورًا، على عكس المتوقع، وهكذا عادت بها ممتلئةً، ركنتْها بجوار الباب وبدأتْ في التجرُّد من ثيابها، وما لبثتْ أن أخرجتْ هي أيضًا كُراستها والألوان، رتبتهم على المكتب أمامها وقالت:
"هيا يا أبطال، كل واحد فيكم يرسم الحيوان أو الطائر أو النبات، أو حتى الجماد، الذي يتخيَّل أنه يشبه روحه".
فضجَّتِ الوجوهُ بالحيرة وتعالتِ الهمهماتُ، ابتسمتْ، وقالت وهي تقترب منا:
"أنا أتخيَّل نفسي شجرةً قديمةً، الناس تسكنها وتبني فوق فروعها الكبيرة بلادًا وبيوتًا، وأنت؟
أجاب من أشارت نحوه:
"أنا بتمان".
"وأنتَ؟".
أجاب الثاني:
"أنا أسد".
"وأنتِ؟".
أجابتِ الثالثة:
"أنا بابا".
"وأنتِ؟".
"أنا سمكةٌ خضراء".
"وأنتَ؟".
"أنا طائرة".
وهكذا حتى وصلتْ إليَّ وسألتْني، فوقفتُ كي أُجيب، غير أني أستيقظتُ على صوت سرينة سيارة الشرِطة، التي تمزق الصمت السميك، كل ساعةٍ تقريبًا، منذ بدء الوباء والحجر الصحيِّ، ورغم ذلك، ظلتِ البهجةُ ورائحتُها المنعشة في روحي، مما جعلني أتمنى أن أعود إلى الحلم كي أنهل منها أكثر قدرٍ ممكنٍ، وكي أُجيب على السؤال مثل الأطفال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى