محمد فايز حجازي - الجريمة والعذاب... قصة

طفلان، ومنزل مغلق، ونداءات لا تتوقف، وبكاء مستمر..
ظل الطفلان يطرقان باب الشقة من الداخل، يناديان، يبكيان، يصرخان ولا أحد يجيب.
- اعتني بأخيكِ، ولا تدعيه يلهو عند أزرار الكهرباء أو صنابير الماء، سأذهب أنا ووالدتُك لشراء متطلبات للبيت، وقضاءِ بعض المصالح، ثم نعود سريعًا إن شاء الله. (قالها الأب لطفلته ذات الأحد عشر ربيعًا وهو يصحب زوجته في طريقهما إلى باب المنزل، غادرا وقد أغلقا الباب من الخارج على الطفلة وأخيها ذي السنوات الأربع).
جعلت البنت تلاعب أخيها الصغير، شاركته ترتيب صفوف السيارات البلاستيكية الصغيرة، أطعمته، منحته بعض الحلوى، حتى
إذا ما مضت ساعة واثنتان، وساعات أُخَر، بغير عودة أبويه، أخذ يبكي، ويناديهما بحرقة، حاولت الأخت ملاطفته بلا جدوى.
ظل يبكي حتى احمرت عيناه وأنفه، عندما أتى الليل، دارت رأسه، أعماه الصداع والتعب، خرّ على أرض الصالة نائمًا بلا حراك، حاولت أخته حمله إلى السرير فلم تستطع، وضعت رأسه على وسادة أحضرتها من غرفتها، غطته ونامت بجواره، كما تفعل مع عرائسها، نشجت باكيةً وهي تمني نفسها بصوت المفتاح، ومشهد أبويها يدخلان حاملان في يديهما أكياس الأطعمة والعصائر والبسكويت والحلوى.
في الصباح استيقظ الولد، نظر حوله لحظة، تذكر مأساة الليلة الماضية، قام ينادي أبويه، فتش عنهما في غرف المنزل، عندما تأكد أن المأساة مستمرة، واصل بكاءه ونداءاته بحرقة بالغة.
- ماما وبابا عند ربنا؟! (كان يتساءل من حين إلى آخر في لوعة).
استيقظت أخته فزعةً، لم تحاول مداعبته هذه المرة، بكت معه بشدة.
بلا اتفاق توجها معًا إلى باب المنزل، طرقاه في قوة، مازالت نداءاتهما يتردد صداها في أثير المنزل بلا رد أو معين.
ظلا يطرقان الباب بأيديهما وأرجلهما ورأسيهما، ولا شيء إلا ضربات القلب والبكاء، والصمت المُطبق خارج الباب.
وقع أقدام تقترب بالخارج، صَمَتا، أرهَفَا السمع، تخيلا أبويهما، صوت حقيبة تُوضع على الأرض.

الأستاذ خالد طلبة، محام ذو سطوة، يقطن بالشقة العليا، علاقاته متشعبة ومعقدة بالكبار، غادر شقته في طريقه إلى المحكمة، عندما هبط الدرج ، سمع بوضوح طرقات وصراخ الأطفال.
- مهمة سهلة، أتولاها أنا.
(قالها يومًا ما في مكتب الثري الشهير، الذي كان يجلس، يدخن السيجار في عمق، وقد أعطى المحامي ظهره).
المبلغ كان عظيمًا ومجزيًّا، كانت الفرحة تقفز من عينيه، وهو ينظر إلى الرقم المُكوَّن من ستة أصفار الذي كُتب على الشيك.
وقف الأستاذ خالد أمام باب شقة الطفلين، وضع حقيبته أرضًا، اقترب بأذنه من الباب، سمع لهاث الطفلين، تأكد من نجاح المهمة، ابتسم بتشفٍ ثم انصرف، في الطابق الأرضي حيَا حارس العقار الذي رد تحيته بابتسامة ذات مغزًى.

عندما سمع الطفلان وقع الأقدام مبتعدةً، واصلا الطرْق والصراخ والنداء، وللمرة الألف تشبثتِ الطفلة بالأمل، توجهت إلى هاتف المنزل، الذي كان بلا حرارة كجثة هامدة، عادت إلى أخيها ليواصلا معًا رحلة المعاناة، والبحث عن والديهما.

الدكتور إبراهيم فوزي، صيدلي يقيم بالشقة المواجهة، مرة أخرى توقف الطفلان عن ثورتهما اليائسة، عندما سمعا وقع أقدام الدكتور إبراهيم قادمة في اتجاههما.
- لا تنسَ أنه تخصصي، التركيبات الكيميائية لعبتي المفضلة، سيسير الأمر بأكثر مما تتمنى (قالها الدكتور إبراهيم للرجل الذي كان يترأس ذلك الاجتماع المهم، والذي ضم عددًا محدود للغاية من أُولِي السطوة).
ابتسامة خبث وانتصار ارتسمت على شفتيّ الدكتور إبراهيم، فور خروجه من شقته وسماعه صراخ الأطفال، عند باب شقتهما توقف قليلًا، ثم واصل طريقه إلى صيدليته وقد دبَّ النشاط والسعادة في جسده فجأة.
ربما تقترب النجاة، مع اقتراب موعد درس الطفلة ووصول الأستاذ شريف صفوت مدرس التاريخ، صعد الأستاذ شريف الدرج في عجلة وبخطوات رشيقة، كطالب نجيب يسرع ليرى نتيجة امتحانه، قبل أن يصل إلى باب الشقة، قابل الأستاذ ذكي وهدان الصحفي في جريدة (الجميع) الذي حياه في حرارة، ثم أخرج هاتفه من جيب سترته، فتح موقع الجريدة، ليُقرِأه خبرًا، انفرجت على إثره أسارير الأستاذ شريف، ليغادرا البناية معًا في سعادة جمة.

في المساء، كان الطفلان قد استنفدا كل طاقاتهما، انهارا جوعًا وإعياءً.
خفتت طرقاتهما...
بُح صوتهما...
تلاشت تمامًا نداءاتهما...
وليس هناك ما يبرر الغياب.
أو المؤامرة.
أو المشاركة في الجريمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى