محمود سلطان - يموت الباشاوات.. وتبقى الأسنة!

رأيت شبحًا، يقطع بهو السلاملك ذهابًا وإيابًا، ولا يؤنسه إلا الصمت والظلام، وخشخشة ارتطام أرجل الفئران في مخلفات حريق من الأوراق والكتب القديمة.
رفعت رأسي بحذر، ترامى من الحرملك فحيح أفاعي، رأيتها تتلوى على الجدران، متدلية صوب نافذة مقابلة، والشبح يفرك يديه مرة، ويعقدها خلف ظهره تارة أخرى، يركل بغضب كتبًا تخرج من أطرافها نتوء زجاجية مدببة، يقلب صفحاتها بسرعة، يتشقق جلده. ينزف دمًا، يلقيها بعصبية خلف ظهره، ثم ينحني ليلتقط أوراقًا. يركض. تتعقبه. يدفع بيديه النازفتين، حبلاً يطوق عنقه، سمعته يصرخ وينادي: "النجدة يا أمينة"، فض غَبَش الصمت الموحش طرقات حذاء يقسو كعبه العالي على درج الحرملك: شبح سيدة تتقدم نحوه، لا تهتم باستغاثته، قد تكون أميرة أو وصيفة أو خليلة، ترفل في فستان أبيض من الحرير، مرصع باللولؤ والألماس، يتعقبها ذيل، يشغل نصف مساحة البهو. بدت لي تنظر إليه هازئة، وبصقت في وجهه بثلاث لفائف ورق، طلت من بينها مثل لمعان البرق في ليلة شتاء غائمة، صورة عرابي والمهدي والقائد البريطاني جارنيت ويلسلي.
جثا على ركبتيه بين يديها متوسلاً ألا تتركه، ركلته بحذائها المصنوع من جلد الإبل، والتفتت بخطى مسرعة مبتعدة صوب الدرج، مستقبلة باب الحرملك.
أعياني الوقوف واضطراب أطرافي المرتعشة، جلست مقرفصا تحت السور، ترامى إلى أذني، صوته الأجش يلعن سيدة خلتها بغيا، يتساءل متهكما: كيف تلديني يا "شفق هانم"؟! ولم تكون من بين زوجاته الأربع؟!
لا أعرف ما حل بي، وغمض علي سر هذا الخاطر، الذي همس بإغرائي، وجردني من إرادتي، فوثبت طواعية إلى متن قاربه، أنام على فراشي أول الليل في مدينة نصر، فأجد نفسي لصق سور القصر الملكي في حلوان.
الخديوي ليس وليا.. ليس مولانا جلال الدين: في ليلة غلبني النوم، وبين يدي "قواعد العشق الأربعون"، بعد أيام وجدتني في "قونية" درويشا مولويا بين يدي مولانا أرقص ملفوفًا بالكفن وعلى رأسي شاهد القبر.
ترامى من بعيد صلصلة عجلات عربة كارلو، يقودها رجل بصدره الناتئ، هزيل الجسم، فظ الهيئة، عليه أسمال تشكو ما أصابها من رتوق، ينتعل بلغة أكبر من مقاس قدمه النحيلة، مرت من أمامي حاملة تحفًا ونجفًا، والمكان يعبق بأريج العطر المفضل للأميرة "شفق"، إذ ذاك، تلوت في نفسي "كمثل الحمار يحمل أسفارًا"!
بدأ الليل يجمع أمتعته الموحشة من فوق أسطح المنازل، فبدت المآذن المطفأة، كأنها يدان مرفوعتان تتوسلان رحمة السماء، وتنهدت الشوارع مسترخية مع شقشقة العصافير، ووشوشة نسمات الفجر المغسولة بالندى. رمقت شابا يخرج متأبطا ذراع فتاة، وهما يترنحان. يرتطمان ويتساندان على بعضهما، يتبادلان تدخين سيجارة واحدة، تنتقل من بين شفتيه لتستقر بين شفتي الفتاة، اقتربا مني حدقا بي وهما يغالبان فتح جفونهما المسترخية، سألاني: ماذا تفعل هنا؟!
فقصت لهما ما رأيته ليل أمس! قالا في صوت واحد: إنه الخديوي توفيق!
قلت: "ولكن الخديوي مات من 120 عاما"!
ضحكت الفتاة بخلاعة، ونفثت في وجهي دخانا كريها، أفرغ ما تبقى في بطني الخاوية.. وقالت: لكن الشيخ عبد الله النديم لم يمت!
Mahmoud

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى