د. سيد شعبان - طريق الآلام!

مغمض العينين تبعته، وها أنا وحدي أترقب قدري، يشدني الحنين إليه، ترى أين هو الآن؟
يقال صعد إلى السماء؛ حتى المسيح بعضهم رآه كاذبا، أولاد الأفاعي مكروا به، يهوذا على خشبة الصليب مكانه، ما يزال طريق الآلام يدمي العابرين.
استدار إلي حين رآني مغضبا،أتبعني بمقولة لا يزال صداها في أذني:" نقاتل الناس بالحب"
لم أكن أنتبه إليه من قبل، دائما كنت أنفر من ثيابه الممزقة يبدو قادما من زمن توارى خلف جدران مدينتنا التي لفظت روحها، صارت بلا قلب؛ يتحرك على بساط أخضر؛ يحمل على كتفه جريدة جاء بها من عزبة النخل، حافي القدمين، يبدوان مثل صفاء النهر، ينساب شعره متماوجا، يقذفه الصغار بالحصى، تتندر عليه نساء يضعن أظافر فيخالهن الرائي مخالب سبع مفترس، يجري في الطرقات، يتمتم بكلمات غريبة: الصفا ماء القلب، الروح تشتاق إلى الحبيب!
الثعلب يسكن النيل، القطة تحمي عيالها!
تفر الأرانب من أمام ابن عرس؛ يغرز نابيه ومن ثم يمتص منها سر الحياة ، في كل زمن مصاصو دم يجوبون شوارع المحروسة، نخاف منهم لكنهم يشدوننا بحبل الذل إليهم؛ بضعة أرغفة، شربة ماء؛ حبات من الفول النابت.
يطوي وريقات صفراء ينظر فيها، يحرك أصابعه محذرا؛ نظرة عينيه الشاردة إلى عالم آخر؛ هل به مس؟
يسكن جوار أم هاشم، يأتيه العرافون فينهلون من شفتيه أورادا، يرقبه رجال الوالي، يخفي وراءه سرا، لا يأمنون لأحد، بهم الفزع، كل صيحة تثير رعبهم، وهل ينام سارق الحلم الأبيض من بين شفاه العذارى؟
تبعته كما الطفل، أمسكت بطرف ثوبه المهلهل؛ مسح بيديه الطريتين على خدي، تفل في كوب أخضر ومن ثم سقاني شربة ماء، ارتويت حتى جرى ريقي خيطا على صدري، هممت بالحديث معه، أشار بكفه؛ لزمت الصمت.
في محضره تهرب الكلمات، تتوارى الظلال إلا من فيضه، نور يسبح فيه مريده، تجمع الناس عند باب زويلة، أعد علي بك الكبير مشنقة لشيخي، تصدر الأبواق نفيرها، صليل سيوف المماليك يخطف الأبصار، يزحف الموت بطيئا، نترقب الشيخ الأخضر، راية عملاقة، عازف الربابة ينشد الولاء لمولانا صاحب المقام.
يتقافز قط من بين أرجلنا، يصعد عصفور مأذنة مسجد الغوري، تتساقط أمطار، هل نحن في آخر الزمان؟
علي بك الكبير مضرج في دمه، يغدو أبو الدهب في حلة موشاة، باعه حيث يسكن مولانا في الباب العالي؛ آه يا بلد؛ تخنع عند أول صيحة؛ يعدهم الشيطان غرورا، تنتشر التماسيح في البر كله، يغيض النهر، تعوي الذئاب في حارة سد، أتشبث بك يا صاحب البردة الخضراء، تبعدني، أتوسل بمقام سيدنا الحسين من ربه.
تبكيني خضرة الشريفة، وحيدها منذر بسياف أسود يتطاير الشرر من عينيه، يقال لم يعرف الحب قلبه منذ أن اشتراه الأتابك، يطيع من اعتلى الأريكة.
أقترب فأنال البركة؛ صوته يتداخل بين لحمي وعظمي: الطريق طويل، كلما هممت تخطفتك الجنية، اجر في الساحة، ارتد ثوب الطاعة؛ هيهات ينال من عزيمتك!
ينثر الأتابك الرعب ملحا في عيون سكان الحارة، يرمون أطفالهم في جوف المغارة، أخلع بابها الذي سكنته العناكب، يتحطم بين أصابعي؛ منذ سبع يجري فيه السوس.
يبث عيونه تترصدني، أتخفى ويفضحنى عزمي، أهتف غير واع: للبيت رب يحميه!
يمسكون بي، تزغرد نسوة في المدينة؛ يعدهم ويمنيهم: المن والسلوى؛ كفاء الجوع ومأمن الخوف.
يمرون بي ويشدخون رأسي بالحجر، تنزف السماء دما، في كل أمة مسيح يقدمونه قربا تأكله النار.
تعلو قدمي تتراقص حبال برقبتي، شيخي هناك يبكيني؛ يقذف أبا الدهب بالحجر؛ يبتهل إلى ربه أن يتقبلني، تطير حصاة من يديه، تعمي عينيه، يولول الأتابك كما النساء، يجري الناس دون وجهة؛ يلقون بأنفسهم في النهر؛ يغتسلون سبع مرات، أتمتم ببعض أورادي، يأتي الطير الأخضر يحملني بعيدا، تسقط السماء مطرها، تخرج الأرض بقلها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى