محمود سلطان - الشبيهان!

تركته وحيدا، نصف جسد، والنصف الآخر، مقبور بالشلل، يطوي المسافة من القرية إلى المدينة، بنصف جسمه المعتل بالشحم، يمشي مائلا، يتصبب عرقا في اليوم الشاتي، يرفع بيده اليسرى منديله المحلاوي، يربت على عينيه الملتهبتين من ملح العرق، تعلم صنعة النجارة، يستهل يومه كل صباح بالجلوس على مصطبة المسجد : السلام عليكم يا شيخ حسن. يشرق وجهه الجميل المشرب بالحمرة. ينادي متوسلا أريد عملا! ينظر إليه مبتسما ثم يمرق مستخفا. تغرب وسامته عن وجهه، تحمله سفائن الصمت إلى ما بعد تلال حزن، وهناك تقطع العفة لسانه، لا يتكفف الناس، ينزوي إلى مصطبته، يسحب يمينه المشلولة بيسراه بمشقة ، يجمعهما في قعر حجره، يسند ظهره إلى جدار المسجد، صفا قلبه، فنام، غط في نومه، والعابرون يلقون كل يوم، على جرحه النازف ماءهم الأجاج؟!
توسطوا له، ما إن لمحه المدير، حتى اكتست سحنته بالغضب، وأمر بطرده، غادر قافلا إلى قريته، واعتاد القعود والصبر على قهقهة الصبية واستهزائهم به من حوله. ينفذ صبره، ينهض، يجمع الحجارة، لا يُعرف من أين تأتيه، يهرول خلف الصبية، يزأر بصوته مثل الأسد الهائج، يربض ويركض ، يرشق المارة بالحجارة، تعلو صرخات الاستغاثة، يهربون إلى الحواري والأزقة المجاورة. يسقط على الأرض مغشيا عليه، يعود إليه الصبية، يحملونه، يعيدونه إلى مصطبة المسجد، يقبلون رأسه، يجففون عرقه، يغسلون وجهه، يجلسون بين يديه: سامحنا يا شيخ حسن! يومئ برأسه وشفاه مبتلة برغاء لعابه الأبيض، يغالب دمعته: اتركوني وشأني.
يحلم بلعوب تدفئ فراشه في ليلة شاتية، يغافل المارة، يفوز بلذة خاطفة، يتحسس موضع عفته، يعذبه الاستمناء في وحدته ليلا، يضربه ضميره بمعوله، فالجنابة تقبض على عنق متعته الوحيدة، حين يُنادي عليه في القرية بالشيخ حسن: من تقبل بي زوجا؟!
هجر مصطبته، وانتقل إلى أخرى، تقابل شباك غرفة فتاته التي أحبها، يقضى يومه، لا يصرف عينيه عن واجهة الدار. بنيتها التي تشبه عسل الخلية الأبيض: صباح الخير يا شيخ حسن! يتقافز قلبه بين جنبيه، وتتدلى الدمعات من عينية الحانيتين، يمتطي خياله متن الغيمات المسافرة، إلى حيث الأحلام السهلة: يلبس جلبابه الأبيض المطرز وطاقية بلون الجلباب، يجلس بجوار عروسه على الكنبة، يرد بيده السليمة على تحايا المعازيم ، يسبل عينيه للعروس، يبتسم ابتسامة عشق، يرقد فوق المرتبة الجديدة المنفوشة، يرفل بنعومتها وجواره ست البنات . استفاق وأهل الفتاة يجذبونه من ياقة جلبابه: اغرب من هنا، وإن عدت ستقطع رقبتك!
عثروا عليه في الصباح ملقى على وجهه على درج المسجد، تفحصه عم متولي الحلاق: البقاء لله! ومضى عائدا إلى صالونه. حمله الصبية، صحن المسجد مغلق، نقلوه إلى غرفة النعش وخشبة الغسل المجاورة، استبد بهم الخوف، طرحوه على الخشبة وانصرفوا. غسله خادم المسجد وكفنه، نادي في الميكرفون: صلاة الجنازة على الشيخ حسن، لم يأته أحد، ظل لساعات لا يؤنسه إلا جسد الشيخ المسجى خارج النعش.
إذ ذاك، وصل متاؤوس الإسكافي، حاملا متاعه على عربته الكارو، ، افترش الأرض كعادته أمام المسجد، وضع الأحذية والقباقيب والصنادل على خيشته، لمح الخادم على الباب عابسا يردد بصوت غاضب وشجي الحولقة، خلع مريلته المتسخة، ألقى حاجياته: الشاكوش والسندان والمقص والشفرة على الأرض، انتعل حذاءه، حملته اللهفة مسرعا إلى المسجد، وضعا النعش في اتجاه القبلة، كبر الخادم أربع تكبيرات، ومن خلفه متاؤوس يرسم الصليب على صدره، يتلو بصوت خفيض وهامس آيات من الكتاب المقدس.
وضعاه على العربة الكارو، شد متاؤوس لجام حماره العجوز، وانطلقا به إلى مقابر الصدقة وحدهما، دلفا من زقاق نصف مظلم، إلى طريق مجعد بالأخاديد، يتلوى مثل الثعبان صعودا وهبوطا وريح خفيفة تقطف أوراق الشجر على جانبيه، تتهادى برفق على النعش البارد، كأنها ملائكة أولوا أجنحة، تحنو عليه، تؤنسه في وحشته. التفت متاؤوس إلى الجسد المسجى خلفه ، تفرسه حزينا، استشرف جنازته، رثى نفسه وبكى، رفع طرف جلبابه المتسخ وجفف دمعتين تعلقتا بين جفنيه. همس في سره: الحال من بعضه يا صحبي.. أنا وأنت شبيهان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى