مصطفى نصر - سيدي بشر

يمر أتوبيس شركتنا من أمام مسجد سيدي بشر مرتين، مرة في الصباح، والأخرى بعد نهاية العمل.
أتابع كل صباح قهوة في مواجهة المسجد، أتمنى لو أوقفت السيارة ونزلت منها وجلست على هذه القهوة لاستعيد ذكرياتي البعيدة.
فعندما يقترب العيد، نتفق على ركوب قطار أبو قير والنزول في محطة سيدي بشر، والسير حتى مكان هذه القهوة، كنا في بداية شبابنا، مجموعة كبيرة من الشبان والشابات، نتزاحم في عربة القطار، تجلس بعض الفتيات، والأخريات واقفات يتحركن مع تحرك عربة القطار الرتيبة.
أتذكر صديقي القديم خالد، كان وقتها على خلاف مع سعيد حسني- صديقي الآخر – هما أكبر مني سنا. احتدم الخلاف بينهما فوصلا لحالة السب والشجار. وعندما وصل القطار لقرب سجن الحضرة، صاح خالد لصديقه القديم سعيد حسني:
- سعيد، سجن الحضرة أمامك.
فنظر سعيد إليه وإلينا في أسى وحزن ولم يعلق. كلنا نعرف ما الذي يقصده خالد مما قاله، فوالد سعيد في سجن الحضرة الآن، فقد كان يعمل عربجي في البلدية، يسلمونه عربة ذات جدران عالية وقوية، يجرها بغل. يطوف بها حارات وشوارع حي بحري، ناظرا إلى الأرض، فالكناس يجمع له الزبالة في أكوام، ما إن يرى الكوم، حتى يقفز من عربتة، وهو ممسك بصاجة وقفة صغيرة في يده، فيأخذ زبالة الكوم ويرميها في العربة، ويذهب في آخر النهار بهذه الزبالة في مقلب على ترعة المحمودية، يلقيها هناك.
في ذلك اليوم، اصطدمت قدمه بقطعة حديد سوداء، فنظر إليها فتأكد أنها مسدس، فانحنى وحمله في حذر خشية أن تنطلق منه رصاصة وتصيبه، دسه في ملابسه، أخفاه، وعندما عاد إلى بيته، تفحصه بعناية، كانت اجزاءه متجمدة لا تتحرك من أثر الصدىء، فوضعه حسني في برميل الجاز الموضوع في البلكونة لعدة أيام حتى تحركت أجزاءه وزال الصديء عنه، قالت زوجته له:
- جننت يا رجل تأتي لبيتك بمصيبة؟!.
كان يحاول تحريك أجزاء المسدس، فقال:
- سأبيعه بثمن مرتفع.
فأشاحت بيدها وابتعدت، خافت من أن تتطلق رصاصة منه وتصيبها، قالت من بعيد:
- ألا تخاف من أن يظهر عفريته وأنت تمسكه؟!
- ومن أين سيأتي هذا العفريت؟
- بعد أن استخدموا هذا المسدس في القتل، أخفوه وسط الزبالة.
- نحن في حاجة للمال لزواج ابننا سعيد.
ابتعدت المرأة عنه وهي غير راضية عما يفعل.
عرضه الرجل للبيع، وهو يضع ثمنه في جيبه، وجد الشرطة تقبض عليه، وحكم القاضي عليه بالسجن.
00
البنت سميرة لم تلحق لها مكان في عربة قطار أبو قير، فوقفت مستندة على ظهر المقعد، دعتها صديقتها للجلوس مكانها، لكنها رفضت. هي مرتاحة لوقوفها بجوار خالد ابن خالتها.
سميرة ذات وجه مبتسم دائما، ابتسامتها الجميلة تظهر سنتها الذهبية التي تزيدها جمالا وبهاء.
تسكن سميرة الحارة السد الضيقة. معظم سكانها أقارب، وليس من السهل أن يمر بها غريب.
مات والد سميرة وهي صغيرة، فعاشت في كنف أخوتها الكبار الذين يفرضون عليها سيطرتهم.
جاء حسني طالبا يدها لابنه سعيد، فوافق أخوتها، رغم علمهم بأن أختهم تحب خالد ابن خالتها، المشكلة أن حسني هذا قريب والدها، وفي عرفهم إن قريب الأب أولى من قريب الأم. يعني لو قريب للأب - ولو من بعيد - أولى من ابن خالتها. وسميرة غير راضية على هذا الحكم.
يقف سعيد حسني في عربة القطار وسط الشباب، ويراها وهي تتحدث مع خالد ابن خالتها، وتضع يدها على كتفه حتى لا تقع من تحركات عربة القطار الرتيبة.
تهمس سميرة لخالد معاتبة:
- لماذا ذكَّرت سعيد بسجن والده؟
- لأنه يريد أن يأخذك مني.
- لا، أنا غير راضية عن فعلتك هذه.
وضع يده على يدها وابتسم لتغير الموضوع.
**
يمر أتوبيس شركتنا في العودة أيضا من نفس المكان، فأتابع القهوة الخاوية الآن، لا، أيام العيد تكون مزدحمة، وأتابع الحديقة الواقعة أمام مسجد سيدي بشر وأمام هذه القهوة. تسرع الفتيات إليها، يجلسن على المقاعد، ثم يفترشن النجيلة، البنت سميرة تستأجر طوق هيلا هوب، وتضعه في وسطها وتحركه، ترقص وسط الطوق، وخطيبها سعيد حسني يجلس معنا يتابعها في صمت، وخالد ابن خالتها يجلس من الناحية الأخرى يتابعها بإعجاب، لا يستطيع أن يقترب منها في الحديقة، فهذا هو الأتفاق- الشبان يجلسون على القهوة، والبنات تجلسن في الحديقة، فعيب أن تجلس الفتيات على القهوة. ولا يقترب الشبان من الحديقة التي تجلس فيها البنات.
استأجرت أكثر من فتاة بسكلتات، ودرن بها حول الحديقة، فأسرعت البنت سميرة واستأجرت واحدة، وصلت بها لخلف المسجد، واقتربت من شاطيء البحر، هي الوحيدة التي استطاعت أن تفعل ذلك. فصفقت الفتيات لها، وصفق خالد ابن خالتها لها.
الوقفة في عربة القطار جمعت بين شبان وشابات، اتفقوا على دخول السينما في المساء. لكن البنت سميرة لا تستطيع فعل هذا فأخوتها يسيرون خلفها في كل مكان، وقد منعوا ابن خالتها من زيارة بيت خالته حتى لا يقابل البنت سميرة.
00
عند عودة سيارة الشركة أجد الحديقة خاوية، وكل الأشياء تغيرت. لم تستطع سميرة أن تفرض رأيها وتتزوج خالد ابن خالتها الذي تحبه، أخوتها أرغموها على أن تتزوج سعيد حسني، الكل توقع ألا تستمر هذه الزيجة لأيام قليلة. ففي حفل الزفاف جلست سميرة في المسرح وحدها، العريس يأتي في آخر الليل، وعندما يأتي، ينتهي الحفل. فاقترب منها خالد ابن خالتها ورغب في أن يتصور معها، لكن حسني - والد زوجها - رفض، فدفعته في عنف وأصرت على أن تتصور مع خالد، الكل تحدث عن هذا، حسني قال لمعارفه في أسى وحزن:
- لن تستمر هذه الزيجة.
**
زرنا سعيد حسني بعد أيام قليلة من زواجه أنا وصديق آخر، أنا وهو نعرف أن زوجة سعيد حسني لم تكن ترغب فيه. دعانا لبيته ووعدنا بتقديم الطعام من يدي زوجته، وأطال في مدح مهارتها في صنع الطعام.
اندهشنا من التغيرات التي حدثت، قال زميلي الآخر له:
- لا نريد مشاكل مع زوجتك.
فضحك قائلا:
- أية مشاكل؟! زوجتي تتمنى رضائي الآن.
حكى لنا ما حدث، سبته وهو يقترب منها. لكنه لم يغضب أو ييأس، واقترب منها أكثر، حتى لانت وصاحت وهي تسبه في استسلام:
- أنت تعمل فيه كده يا ابن الـ... ؟!
وشدته إليها وقبلته في عنف.
استمر زواجهما لسنوات طويلة، ساندت زوجها، وربت أطفالها منه، ابنهما سكن في عمارة قريبة من بيتي، فكنت أراهما كثيرا، كانت تضع يدها في ذراع زوجهاـ تتشبث به وتحدثه في حب وهيام.
كلما مر أتوبيس الشركة من أمام مسجد سيدي بشر أتذكر صديقي سعيد حسني وزوجته سميرة وخالد ابن خالتها الذي عاير صديقه القديم بسجن والده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى