د. علي خليفة - مسرحية "الفظ" أو "كاره الناس" للشاعر الإغريقي ميناندروس «342 ق.م291 - ق.م»

تأتي أهمية هذه المسرحية في المقام الأول في أنها المسرحية الوحيدة التي وصلتنا كاملة من مسرحيات ميناندروس، كما أنها تمثل المسرحية الوحيدة التي وصلتنا كاملة من الكوميديا الإغريقية الحديثة التي ظهرت في أثينا في الربع الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد حتى نهاية الربع الأول من القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد تم العثور على مسرحية الفظ لميناندروس – ومقاطع أخرى من مسرحيات له لم تصل كاملة – في صعيد مصر في خمسينيات القرن الماضي، وتعرف العالم من جديد على هذا الكاتب الإغريقي الكبير الذي كانت أعماله من أهم الأعمال التي اقتبس منها كتاب الكوميديا الرومانيون خاصة بلاوتوس وترنتيوس.
وقد ألف ميناندروس ما يزيد على مائة مسرحية، وعاش في فترة مضطربة، وساد بلاد الإغريق فيها حكم استبدادي، وانعكس هذا على مسرحيات ميناندروس، ومن تأثر به من الكتاب الرومانيين خاصة ترنتيوس وبلاوتوس، فهما لا يتناولان في مسرحياتهما القضايا السياسية بجرأة ومباشرة، خلاف ما كان يفعله كتاب الكوميديا الإغريقية القديمة خاصة أرسطوفان.
وتدور معظم المسرحيات الكوميدية في فترة الكوميديا الإغريقية الحديثة عن المغامرات العاطفية، وأكثرها مغامرات فيها تعبير عن الشهوة، والقليل منها يكون تعبيرًا عن عاطفة رومانسية، ولا يتم التعبير في هذه المسرحيات الكوميدية عن عواطف المرأة إلا بالقدر الذي يخدم موضوع المسرحية، وأحيانًا لا تظهر المرأة فيها أمام الجمهور، ويتم الحديث عنها
في غيابها عن العرض، ونرى هذا أيضًا في المسرحيات الكوميدية اللاتينية عند بلاوتوس وترنتيوس.
ومن الواضح أن المسرحيات الكوميدية في مرحلة الكوميديا الحديثة الإغريقية كان الغرض الأساسي منها تسلية الجمهور العادي، ولم تكن تهتم كثيرًا بإرضاء الجمهور عالي الثقافة، خلاف ما كان عليه الأمر في الكوميديا الإغريقية القديمة، وهذا لا يعني التقليل من المسرحيات الكوميدية الإغريقية الحديثة، ولكنه يشير – إلى حد كبير – إلى أن أكثر هذه الكوميديات كانت تشبه مسرحيات الفارس في عصرنا، فهي تهدف للتسلية والإضحاك قبل كل شيء.
أما عن مسرحية "الفظ" أو "كاره الناس" فإننا نرى فيها خطين دراميين، ويقوم ميناندروس بالربط بينهما، والخط الأول فيها عن كينمون الشيخ الفظ الذي لا يأنس بالناس ولا يأنس به أي أحد منهم، وهو يرى أنه ليس بحاجة لأحد، ويعيش دائمًا داخل أرضه الزراعية، وفي بيته، وينزعج حين يرى أي أحد يطلب إليه تقديم أي معروف، ولو كان بسيطًا، وهو أيضًا سريع الهجوم على أي شخص يطرق بابه سائلاً إياه في أي أمر من الأمور، فهو لا يجعله يكمل كلامه، وينقض عليه بالسباب، وربما بالضرب؛ لأنه تجرأ ودق عليه بابه، وهو يعد هذا الأمر نوعًا من التطفل.
وكينمون بهذه الشخصية غير الاجتماعية يتأذى منه كل من حوله، حتى لقد فرت منه زوجته، وتركته، وعاشت مع ابنها جورجياس الذي كانت قد أنجبته من زوج قبله.
وتعاني ابنته – أخت جورجياس غير الشقيقة – منه، كما تعاني منه خادمته التي كان من سوء حظها أن يكون هو سيدها.
ويستمر وضع كينمون على هذا الشكل حتى يتعرض لحادثة كاد يفقد فيها حياته، فهو قد حاول أن يخرج الدلو والمعول اللذين أسقطتهما خادمته
في البئر دون قصد منها، وبينما هو يحاول إخراج الدلو والمعول من البئر إذا به يسقط في البئر، وكاد يموت فيها لولا أنه أنقذه جورجياس ابن زوجته، وحاول أن يساعده في ذلك سوستراتوس، وعند ذلك يعرف كينمون أن مبدأه في أنه عليه أن يعيش بعيدًا عن الناس ما استطاع لذلك سبيلاً – هو مبدأ خاطئ، ويدرك أنه لولا تدخل جورجياس وسوستراتوس لفقد حياته، فيعد الجميع عند ذلك بأن يغير سلوكه، ويكون حسنًا في التعامل مع الناس، ويقول لجورجياس ابن زوجته: إنه سيتعامل معه من اليوم على أنه ابنه، وسيكون له نصف ممتلكاته، وكذلك يجعل له الأمر في أن يزوج أخته ممن يراه أهلاً لها.
والخط الثاني في هذه المسرحية عن سوستراتوس الشاب العاطفي العاشق، وهو قد رأى ابنة كينمون مرة واحدة، فصار عاشقًا لها، متيمًا بها، وحاول أن يتواصل مع أبيها مباشرة؛ ليعرض عليه رغبته في الزواج منها، واستعان بعبدين من عبيد أسرته في ذلك، هما جيتاس وبورياس، ولكن كينمون لم يسمح لهما بأي تواصل معه، ونهرهما بمجرد أن رآهما أمام باب بيته، ومن الطريف أن نرى أحد هذين العبدين يظن أن زميله قد فشل في مهمته مع كينمون؛ لأنه لم يوقره، ويتزلف إليه، ويقول: إنه سيستدرجه بالتملق الذي اعتاد أن يعامل الناس به، ولكن كينمون لا يستجيب لتملقه، وينهره هو أيضًا، فيتأكد ذلك العبد أن ذلك الشخص لا يمكن التعامل معه.
ويرى سوستراتوس تلك الفتاة التي يحبها مرة أخرى، ويساعدها في ملء الدلو، ويخبر خادم جورجياس بأمر هذا الشاب مع أخته، ويتحدث جورجياس مع سوستراتوس، ويعرفه سوستراتوس أنه يرغب في الزواج من أخته، وأن يكون صديقًا له، ويعده جورجياس بأن يقدم له ما يستطيع تقديمه من معونة في هذا الأمر، مع علمه بصعوبته لفظاظة والد أخته.
ويأتي الموقف الذي يغير طبيعة كينمون حين وقوعه في البئر، وإنقاذ جورجياس له، وسماحه له بأن يجعله متحكمًا في أمر زواج أخته، فيوافق جورجياس على زواجها من سوستراتوس، ويكتشف عند ذلك أنه من أسرة ثرية جدًّا، كما أنه يفاجأ بأن سوستراتوس يعرض عليه أخته ليتزوجها، ويرفض جورجياس في البداية هذا الزواج؛ لأنه من أسرة ليست غنية، ولكنه يوافق بعد أن يقنعه والد سوستراتوس بأنه لا يوجد ما يمنع زواجه من ابنته.
وهذا كما نرى الخط الثاني في هذه المسرحية، ونرى أن ميناندروس قد أحسن ربطه بالخط الأول فيها.
ولا تنتهي المسرحية عند ذلك، بل إن عبدين من عبيد أسرة سوستراتوس يتفقان على أن يخرجا كينمون من بيته؛ ليشهد الاحتفال بالزواج الذي سيقام، وفي الوقت نفسه كانا يرغبان في الانتقام منه؛ لإساءته لهما من قبل حين أرادا أن يحدثاه عن رغبة سوستراتوس في الزواج من ابنته، فانهال عليهما بالسب قبل أن يعرضا عليه ذلك الأمر، وفي مشهد طريف نراهما يخرجان كينمون من بيته على فراشه، ويعبثان معه، ويحدثانه عن سابق أعماله معهما، ويحاول كينمون أن يستغيث بابنته أو بخادمته؛ لتنقذاه من عبث هذين الشخصين به، ولكنهما لا تسمعانه، ويتركه هذان العبدان بعد أن يعبثا به قليلاً، ويستعد الجميع في نهاية هذه المسرحية لإتمام هذا الزواج لكلا الزيجتين.
ومن ملاحظاتي على هذه المسرحية أنني أرى أن أهم عنصر في الإضحاك فيها هو نمط الشخص الفظ كاره الناس، ويمثله هنا كينمون، ومن خلال تعامله الغليظ مع الآخرين تحدث مواقف طريفة؛ ولهذا يعد النمط الكوميدي المتطرف في سلوكه هو الأساس في هذه الكوميديا، كما هو الحال في كوميديات موليير.
وأغلب الظن أنه لم تكن كوميديات ميناندروس موجودة في عصر موليير، ولكنه تأثر به من خلال شخصيات وسيطة تأثرت به، ومنها الكاتبان اللاتينيان بلاوتوس وترنتيوس.
وأيضًا من عناصر الكوميديا في مسرحية "الفظ" وجود بعض الشخصيات الطريفة من العبيد فيها، كشخصية الطاهي سيكون الذي يقوم ببعض المواقف الطريفة، خاصة في مواجهة كينمون.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى