د. علي خليفة - مسرحية ميديا لسينيكا

تتميز مسرحية "ميديا" لسينيكا ببنائها الدرامي المحكم، وبلغتها الشعرية العالية، وبوجود الحكم العميقة المتضفرة فيها، ومن ثم فنحن نطالع
في هذه المسرحية سينيكا الشاعر المسرحي والفيلسوف في الوقت نفسه.
ويختلف سينيكا في هذه المسرحية عن يوربيديس في مسرحية "ميديا"
في أننا لا نرى ميديا تتحدث في مسرحية "ميديا" لسينيكا عن أي قدرات سحرية تستعين بها للانتقام من زوجها ياسون الذي غدر بها وتزوج عليها، وكذلك
لا تتحدث عن استخدامها السحر في الانتقام من كريون ملك كورنتة ووالد كريوسا الزوجة الجديدة لياسون، بل هي تتحدث عن استخدامها مكرها ودهاءها في الانتقام من كل خصومها بما فيهم كريوسا الزوجة الجديدة لياسون.
ومن هنا فإننا نرى سينيكا قد أبعد عن مسرحيته "ميديا" الجوانب الخارقة التي تميزت بها ميديا في مسرحية "ميديا" ليوربيديس، وصارت ميديا في مسرحية "ميديا" لسينيكا أقرب لطبيعة البشر.
وقد برر سينيكا الانتقام العنيف الذي قامت به ميديا بكونها ضحت كثيرًا من أجل ياسون في الماضي حتى عادت من أجله أباها، وقتلت أخاها، وارتكبت جرائم أخرى من أجله، وكافأها على كل هذا بأن تزوج عليها وأهمل جانبها؛ ليتخلص من كل الماضي الملوث الذي له معها، ويعيش حياة هانئة في جوار زوجة جميلة، وهي أيضًا ابنة ملك.
ولا تستمع ميديا لنصائح مربيتها العجوز لها بالخروج من كورنتة وتجنب مواجهة كريون وياسون، وترد عليها ميديا بأن من يستمع للنصح هو من خفت أحزانه، لا من تثقل عليه أحزانه، وتقيد حركاته وأنفاسه.
والمقصود بانتقام ميديا الأساسي هو ياسون، فهي تقتل زوجته الجديدة حين ترسل لها ثوبًا وقلادة فيهما سم شديد التأثير مع ولديها لها، وتموت كريوسا بمجرد ارتدائها ذلك الثوب، ووضعها تلك القلادة، ويموت والدها كريون وهو يحاول إنقاذها.
وبهذا تكون ميديا قد قضت على الشخصين اللذين هجرها ياسون من أجلهما، وفي الوقت نفسه تكون ميديا بهذا الانتقام قد جعلت ياسون يشعر أنه يوشك أن يكون وحيدًا لولا بقاء ولديه حيين، وتأتي ميديا بالخطوة التالية في انتقامها، فتقتل ولديها الصغيرين؛ ليصبح ياسون وحيدًا تمامًا في هذا العالم، وبهذا تحقق رغبتها التي عبرت عنها في بداية هذه المسرحية بأن ترى ياسون وحيدًا شريدًا في هذا العالم، كما كان في الماضي قبل أن تعادي العالم كله، وتقوم بجرائمها الكثيرة من أجله.
وميديا في نهاية مسرحية "ميديا" لسينيكا تقتل ولديها الواحد تلو الآخر أمام ياسون، وتلقي بجثتيهما من فوق قصرها الذي كان كريون قد سمح لها قبل قتله مع ابنته أن تبقى فيه ليلة واحدة استجابة لتوسلاتها التي أجادت تمثيلها أمامه، وكانت تمهل نفسها بعض الوقت؛ لتنفيذ انتقامها الشنيع من ياسون ومن احتمى بهم، وظن أنه يستطيع بهم أن يقيم حياة جديدة ليس فيها دماء وقتل خلاف حياته السابقة مع ميديا.
ومن ملاحظاتي الأخرى على مسرحية "ميديا" لسينيكا أنه يمزج فيها بين غنائيات الكورس المكون من نساء من أهل كورنتة – وهن متعاطفات مع ياسون وزوجته الجديدة، ويبدين فيها قلقهن من انتقام ميديا لشهرتها بأعمال الشر وارتكاب الجرائم – ببعض المونولوجات الطويلة على لسان ميديا وكريون وياسون؛ لكشف أغوار نفوسهم، ولكشف جوانب من أحداث هذه المسرحية.
ويمزج سينيكا هذه الغنائيات والمونولوجات في هذه المسرحية بالحوارات المتراشقة، وهي تكون قصيرة أحيانًا، وتدل على قدرة الشخصيات على إظهار حججها خلال تلاقيها، وصراعها بعضها مع بعض خاصة في حوارات ميديا مع مربيتها ومع كربون ومع ياسون.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى