محمود سلطان - مبيض النحاس!

لا يعرفون أصله ولا فصله، ولا من أين يأتيهم، كلما ضاق به الحال، ينصب خيمته التي يكسوها الهباب الأسود، في خرابة النخل، يجوب القرية، ينادي: "مبيض نحاس"، تتدافع النسوة جماعات، يحملن ما لديهن من حلل ومواعين نحاسية، يشعل نارا لا تفتر ولا ينقطع لظاها، سبع ليال حُسُومًا.
يقف فوق الطشت الَمٌولَع، المملوء بالحصى والتراب والسناج والقصدير المنصهر، يدعك بقدميه الغليظتين، يكتم وجعه، يغني مثل حداء البدو خلف إبلهم، لا يُفهم منه شيء، يرقص فوقه حتى يفرغ من تلميع القطعة.
قبيل المغرب تدفقت نسوة القرية عليه، وقفن على باب خيمته، ، حتى يفرغ من تبييض حللهن، يعتقدن إنه "جني" مخلوق من نار. يسألنه : ما أصبرك على النار؟ ما جنسك؟ إنس أنت أم جن؟!
ابتسم بوقار تفرسهن ثم قال سأروي لكن حكايتي: رأيت يوما سيدنا الخضر في أول دخولي مدينة الزقازيق وقراها وما كُنتُ عرفته، وشَرَطَ أن لا أُخالفه، وقال لي: اقعُد هنا، فجلَسْتُ في الموضِع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين، يأتيني كُل سَنة مرَّة، ويقول لي: مَكَانك حتى آتيك".
ومرة كنت في العبادة، فرأيت عرشا عظيما، وعليه نور! فناداني يا مبيض: أنا ربك وقد حللت لك ما حرمته على غيرك!. علمت أنه الشيطان، فقلت له أنت الله الذي لا إله إلا هو؟! اخسأ يا عدو الله !! فتمزق النور وصار ظلمة!.
نظر إلى النسوة، وكأن على رؤوسهن الطير. سكت، فعلت أصواتهن: أكمل يا مولانا. لاذ بالصمت، وادعى انشغاله في فرز أكوام الحلل أمام خيمته. تحلقن حوله توسلن إليه بالخضر الذي جاءه أن يكمل لهن حكايته. قال: أُعطيتُ حرف "كُن" وأنا سائحٌ في البرية، فكُنتُ أجِدُ الموائد منصوبةً فآكُل منها ما أشتهي، وأقطع من الجبل الحلوى وآكل ، وكُنتُ أشربُ من الرَّمل السُكَّر، فأضعُ الرَّمل وأصُبُّ عليه من البحرِ المِلح وأشربه حُلواً، ثم تركْتُ ذلك أدباً مع اللهِ ".
باتت قصته موضوعا للثرثرة خلف كل باب، أسقط الرجل في يد "ناظر أفندي"، الذي فقد حلمه في العمودية، فاز بها فلاح يناسب حال الناس ومعاشهم ، فأحذية الأفندية لا تتعفر في طين الغيطان وروث المواشي. أطلق أولاد الليل، قُطعت جسور الترع، وغرقت الغيطان بالمياه، ونهبت المحاصيل من الشون، وسرقت المواشي في الضحى وفي الليل إذا سجى وفي نهار رمضان، وسد دخان الحرائق رئة القرية.
نادوا في ميكرفون الجامع: ندوة تنويرية يلقيها "ناظر أفندي" . سألوه عن "المبيض" : نعم لقد جاءكم على قدر، ليس لها من دون المبيض كاشفة. سمعت قبل أن يأتينا هذا الرجل المبارك، أن جاءه مرة رجل من قرية "شرويدة" المجاورة قال له: اختَطَفَ الجان ابنتي ، فقال له: اذهب إلى محل كَذا وخُطَّ دائرةً وقُل عند خَطِّها: بسم الله على نيَّة الفقير إلى ربه "مبيض النحاس"، ففعلَ الرَّجلُ كَما أمَره، فمرَّ عليه الجن زُمراً زُمراً إلى أن جاءه ملكهم، فوَقَفَ بإزاء الدَّائرة، وقال له: ما حاجتك؟ قال: فذكرتُ لهُ البنت: فأحضَرَ من اختَطَفَها ودفَعَهَا إليّ وضرَبَ عُنُق الجِني، فقُلت: ما رأيتُ كامتثالِكَ لأمر المبيض، فقال: نعم، إنَّه لينظرُ من دارهِ إلى المَرَدَة منا وهم بأقصى الأرض فيفرُّون من هيبته".
ضجت القرية بالصراخ، وضاقت الشوارع بالحشود، يسوقهم "ناظر أفندي" حاملا على كتفيه "المبيض"، في الطريق اختفى شيخ الخفر، وهرب سيده، سقطت عباءته، القوها على وجه المبيض، فارتد عمدة، أجلسوه على أريكة الهيبة، يأمر فيطاع، خرج إلى الناس من شرفة الدوار الكبير سألهم : هل تعلمون من الشيطان الذي زعم لي يوما أنه ربي؟. لقد ظهر لي حينها في صورة "ناظر أفندي"! أتذرونه يفسد على الناس دينهم؟!.. حملوه، حبسوه مقيدا في خيمة المبيض القديمة. وفي الصباح رجموه بنصف حجارة القرية، فحشر فنادى : أنا عمدتكم الأعلى ، فأطلق الخفر إحدى وعشرين طلقة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى