محمود سلطان - بول مولانا العارف

عندما كنت أمر على مقام الشيخ عثمان، يعوي جسدي من الخوف، تختلط في ذاكرتي الغضة كراماته، أكابد مشقة كبيرة في فهم تجلياته على أهل القرية، لا أفرق بين بطشه وقسوته كما سمعت، وبين بسط يده الحانية للنسوة اللاتي يشعلن الشموع ويحرقن البخور قرب عمامته الخضراء الملفوفة على شاهد قبره، حتى يرق قلبه لحالهن، فيسوق للبكر عريسًا يسترها، وللمتزوجة طفلاً ذكرًا يحميها من الطلاق. وتبتل الرجال ودموعهم وهم يسافرون على أجسادهم بأيديهم بعد أن مستها بركة المسح على جدران القبر، ليمنحهم الفحولة أمام زوجاتهم والصبرعلى العسس وهم يلهبون ظهورهم بالسياط.
قال أبي إنه رآه ذات ليلة قمرية، وهو يمتطي جوادًا أبيض، يقطع المسافات الطويلة بين الغيطان ويحرس حدودها وأهلها النائمين في قراهم البعيدة من سرقة مواشيهم في "نصاص الليالي".
غادرت أقراني في لعبة "الاستغماية" خلف أكوام القش بجُرن أبو سعود، وتسلقت النورج خلسة، سمعت السائق يهمس في أذن الحاج صلاح الذي كان متذمرًا من قلة المحصول: يقولون إن نوار القطن المزروع بجوار مقام سيدي عثمان لا تأكله الدودة، وبضعُ القراريط التي أُلقي بالمقام داخل قفصها الصدري، تؤتي أكلها ضعفين.. ثم سأله: تعدني أن تكتم السر؟ سمعت أن الشيخ عثمان يهجر مضجعه ليلاً ويقضى حاجته في الغيطان و"يا بخته ويا سعده" من أصاب أرضه حظ من بول مولانا.. ستكتظ شون داره بالغلال.
بعد يومين لاك الناس في البيوت السر، واصطفوا طوابير أمام أصحاب الأرض، الكل يشتهي ضمها إلى أطيانه ويسيل لعابه أمام غواية بول العارف بالله.. ولا مست أسعارها أطراف النجوم والكواكب في أفلاكها.
يوم الأحد يٌقُبل عم نصحي يد القس دنيال، ويغادر الكنيسة بعد سماع العظة الأسبوعية، عائدًا إلى القرية، وقبل أن يستأنف فتح دكانه المطل على المقام، يُقبل بوجهه شطر الشيخ عثمان، يطرق باب القبر ينحني أمام عمامته ويشعل شمعتين ويحرق عودًا من البخور.
في يوم رأي عم نصحي المسيح وأمه في المنام، حبسه عن الترجل إلى الكنيسة، ليسأل الراهب الحاذق في تأويل الرؤى، الخوف من الطريق الزراعي الموحش بين القرية والزقازيق، فالعودة تكون مشيًا على الأقدام ليلاً. أغلق دكانه وأستأذن على إمام الجامع الكبير، قطع عليه خلوته، وقص عليه الرؤيا، هز الشيخ رأسه وابتسم بوقار وربت على كتف نصحي وقال له: أبشر لقد حلت على دكانك بركة الشيخ عثمان. تهلل وجه نصحي وكأنه قطعة من القمر ليلة اكتماله، دس يده في جيب السديري وأخرج بضع ورقات مالية وألقاها في حجر الشيخ، تلقفها الإمام وتفحصها بخفة ثم قبّل يده - بطنًا وظهرًا- ثم ردها إليه: "إحنا إخوات يا جدع"..وهو يترنم: الْمَجْدُ لله ِفِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَفي النَّاسِ الْمَسَرَّةُ.
كان يضيق صدر العم نصحي، من فقراء القرية وهم يجادلونه ويغالون في الفصال على الأسعار، يحلف بالله وحده وبالمسيح الحي فلا يتوقفون عن جداله، إلا إذا حلف بالشيخ عثمان، يبتلع الكل لسانه ويقبلون بما يقرره عم نصحي من أسعار.
طلبت منه علبة سجائر "بلومنت" استدار ليلتقطها من على الرف، عندما التفت إليّ وجدني أنصت لأم كلثوم من مذياع بوفيه مركز شباب القرية المجاور:
أنـــــا إن قــــدَّر الإلـــــه ممـــــاتــي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
مــا رمــاني رام ٍوراح سلـــيمـــاً من قــديم عنايـــة الله جنــدي
سألني: تغني لمن؟!
قلت: مصر تتحدث عن نفسها.
قال: سلامة عقلك يا أستاذ! إنها تحذرك من المس بمقام الشيخ عثمان!
قلت:"شيء لله" يا شيخ عثمان وصل صيتك لـ"كرمة بن هانئ" وغنت لك الست.
سمعت أنه عندما اقترب المشيعون بنعش رجل صالح بالقرية، من الشارع الموازي للمقام، غادر النعش أكتاف الناس وطار وطاف مثل يمام الدرغل حول الشيخ عثمان.
من يومها تتعلق أنظار القرويين بكل نعش يقترب من حرم المقام، وتتساءل: ترى سيطوف بالشيخ أم سيشق طريقه إلى الجبانة؟!، فالطواف بشارة على حسن الخاتمة.
ذات صباح استيقظ الناس فلم يجدوا مقام الشيخ عثمان، اختفى، أزالته مديرية الشباب لتوسعة الملعب المجاور، تحولت البيوت إلى مأتم، وفتحت الدور لتلقي العزاء، واجتمع الناس بعد المغرب بدوار كبيرهم: لن نبيت الليلة بدون مقام: أتصرف يا حضرة العمدة، حمل إليه شيخ الغفر التليفون وخلفه تابع يحمل البطارية، أدخل العمدة إصبعه في المانيفله وأدار قرص التليفون، تحدث همسًا انفرجت أساريره: ربنا ما يحرمنا منكم يا معالي الباشا، وضع السماعة ونادي في الناس: أبشروا. بعدها ضجت القرية بالنساء وهن يطلقن الزغاريد والرجال وهم يطلقون الأعيرة النارية.
  • Like
التفاعلات: محمود جلال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى