عبدالله البقالي - حافلة الغزاوي

1
كصوت مفعم بالإغراء يهمس في أذن حالم، تربعت صورتها فوق كل الصور. و بالقدرة لما تستطيع فعله، تجردت من كل المواد المشكلة لها لتسمو فوق كل القياسات والمقاسات، لتظهر كطائر خرافي يتنقل بين دوائر التحضر مستهلكة في الوصول إليها ذخائر الأزمنة و حرارة أنفاس العصور.
الدهشة كانت الفرشاة. و التطلع كان الأصباغ والمساحيق. و الحلم كانت الأنامل المتحركة فوق صفحات القتامة والحلكة، لتحولها إلى مرآة تكشف لروح متطلعة قلاع التربص التي تترصد تطلعا ابتلي بعشق الحياة.
كل الذين ركبوها ارتقوا درجا أو ربما تسلقوا أدراج سلم رفعهم فوق قامات من لم يستطيعوا فعل ذلك. ربما ازدادت قاماتهم طولا. وربما اتسعت حدقات عيونهم وصار بإمكانهم رؤية ما لا يراه الآخرون. و ربما أيضا تقوى نبض قلوبهم وازدادت مسامعهم رهافة لحد صار بإمكانهم التقاط شدو الجمال حين يترنم.
كل الذين تقوت أجنحتهم ومدهم الحلم بالطاقة التي يحتاجها التحليق كانوا يرحلون. المقاتلون القدامى. الطلاب. المهووسون باكتشاف المساحات المفتوحة. و في أبعد مدى كان يصلونه، بثوا روائحهم في التخوم القصية ، وثبتوها كشواهد تحفظ المدى الذي بلغه زحفهم إن فاجأهم الجزر وأعادهم من حيث جاءوا.
بعض من قدر لهم العودة بفعل انكسار أو نفاذ الذخيرة، بدوا وكأنهم يعيشون بلا أزمنة. أيام خالية من الفعل، وقادم بلا تطلع. في المجالس كانوا يتربعون وعيونهم مثبتة على الأبواب. ما كانوا يسمحون بأن يحول شى بينهم وبين أبصارهم. يثبتونها على الأفق البعيد ويشخصون اليصر. وفي المتبقى من القدرة على الكلام، كان يتناهى للمتحلقين حولهم وقائع وصور. بوارج تمخر عباب المحيطات. اصوات تحذير ومؤاخذة. اوطانا تلتهب. السنة لهب واعمدة دخان. صراخ وزعيق وندبة. إشادات و أشلاء. اوجاع وتهنئات. أكفان وإجازات. صخب ورقص.
يغمض الحاكي عينيه. يزم شفتيه ويصمت. شى ما بخترق ذلك الفاصل ويستطيع ان يعبد طريقه إلى الحاضر. الحاكي يبدو فجأة متعبا ومرهقا. ربما استوقفته واقعة يود لو يستطيع ان يقايض كل عمره المتبقى من اجل اجتثاثها من ذاكرته. هل الإنسان وهو ينخرط في صنع حدث ما ، هو غيره الذي يقف مستعيدا له ومتفرجا عليه؟ ....

حافلة الغزاوي 2
مزهوة كانت وهي تتوقف في المحطة، كغاز بلغ النقطة الأبعد من المعمور. كفاتح غمره الرضى بعد أن امتثل العالم لمشيئته.
يتتابع زفيرها المتقطع كاستجماع لأنفاس تحتاجها لإذابة جليد الأزمنة المتراكم عبر عصور الخمول الذي وطدته حدود العشائر، ورسخته دوائر العزلة التي نسجها الخوف والتوجس من القادم.
كنت أقف أمامها كمتعبد سحب منه الوثن عزمه، وتجمد أمامه منتظرا بركته جراء امتثاله له. أتأمل تشكيل ألوانها الذي تجاوب فيه اللون الزيتي مع الأصفر المكسر للبياض. وبفعل تأثير الزمن وعوامل المناخ والارتطامات ، بدت مقدمتها كوجه ملاكم كان خوض النزالات هو اسلوبه من أجل كسب العيش.
في الداخل كانت كل عناصر الإدهاش لقروي تأسست لديه مقاييس الجمال على قواعد كلها بدائية. فلا قياس مع فضائها المترع بالفخامة مع فضاءات البيوت التي كانت في حالاتها المثلى تطلى أرضيتها بمزيج فضلاء الأبقار بتربة خاصة، مع طلاء الجدران بأتربة ملونة.
كان أول ما يثير من يطؤها هو غلاف هيكلها الذي يشعر بالفخامة. و بعد ان تعلو الأدراج وتستوي على سطح ممرها، تظهر مقاعدها المتراصة كأكبر مساحة سكنها النظام. وحين تأخذ نفسا، تتناهى إليك تلك الرائحة المنبعثة من تفاعل المقاعد الجلدية مع الحرارة. وعلى الفور تدرك أن للسفر رائحة وألوان. ويمتلكك المشهد لتتمنى لو كنت عنصرا من تشكيله. همسا من بوحه. نبرة من صوته. وبعد ان تستفيق من الدهشة، تشعر أنك تحولت إلى محرد إبرة لبوصلة أصبحت الناقلة قبلتها.
تقطع ممرها وأنت تقرأ تلك البطاقات التي توزعت على أبعاد محسوبة بدقة نصائح و إرشادات يحتاجها من اعتقد دوما أن الإعاقة عقاب رباني. وأن إرضاء الذات هو المبتغى طالما أن القوة البدنية تمنحه الاستطاعة. لذلك قد يبدو مضحكا الدعوة لترك مقاعد معينة للحوامل والمعطوبين..
توالي قطع الممر وعينيك مثبتة على الباب الخلفي كي لا يفاجئك مساعد السائق الذي قد تتعرض لضربه لك بسبب تطفلك. ولذلك حين تغادر للناقلة، تبحث عنه في المقاهي المجاورة. تترصده بتركيز، لتتسابق مغ الأطفال لأداء أي خدمة يحتاجها، من نقل الماء الذي كانت تتزود به الناقلة إلى حمل الأغراض، وكل ذلك من أجل الا تتعرض للنهر والطرد إن فاجأك وانت جالس على مقعد، او سالكا لممرها. وحين يتحقق ذلك، تحس أنك أخذت أطول نفس في العمر، للحد الذي يعقبه شعور بالرضى والسعادة. لكن الطموح سرعان ما يبدد ذلك الإحساس. إذ يبدو المشهد أشبه بلص سطا واقتطع جزء من حياة وحكاية مقعد بينما المطلوب هو أن تكون أنت الملك. ويكون هو العرش. تسأل نفسك: أهو بعيد جدا ذلك اليوم؟ ....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى