هدى توفيق - سلامتك يا راسي

جلس السيد الفاضل المحامي سابقــًا بعد فشل ذريع في ممارسة مهنة المحاماة، وفشل في حياته الزوجية، بطلاقه المتكرر من نفس الزوجة بطلقة ثالثة بائنة لا يصلح العودة إليها إلاّ بمُحلل، فأراحتْ رأسها من العراك المُـتكرر، وأصبح المُحلل زوجًا حقيقيًا استمرتْ معه.. ودام الزواج لمدة خمس سنوات وما زال، فيئس السيد الفاضل عبد الكريم عبد الفتاح عبد الحميد الدويري من عودة زوجته إليه، فتركها وترك لها كل شيء، حتى أغلى ما لديه ابنته سندس الفتاة الجميلة.. ونزح إلي مدينة 6أكتوبرفي ( محافظة الجيزة). مستأجرًا شقة مكتب عقارات وسكنـًا خاصًا له.. جالسًا علي كرسيه الهزاز مسترخيًا في تأمل حياته البائسة بصلعته وكرشه المُـتضخم وعيونه الخضراء التي ورثتهما سندس.. فأضفى عليها جمالا خاصًا ببشرة بيضاء ناصعة، وشعر أصفر ذهبي.. فوهبها جينات وراثية من أبيها علي شكل أنثى، فكانت فائقة الجمال والروح والدلال بثغرها الد قيق وملامحها الرقيقة الجذابة، عادة ما يفعل السيد الفاضل هذا ؛أي الجلوس لفترة طويلة على الكرسي الهزاز الذي أحضرته له سندس في عيد ميلاده بعد أنْ عرفتْ رغبته في اقتناء كرسي هزاز يضعه في الغرفة الثانية، التي بها سرير خشبي ودولاب متهالكيْن وسجادة مهترئة قديمة، وترابيزة مستعملة اشتراها من رجل يبيع روبابيكيا كان سائرًا على عربة كارو أمام شقتة فى مرة لا تتكرر كثيرًا.
كان السيد الفاضل يفعل هذا قبل موعد حضورغاليته وبسمة حياته سندس من (ميت عقبة ) . لقضاء يوم كامل معه من الصباح إلي المساء.. ويُـصر كل مرة أنْ يقوم بتوصيلها إلى بيتها.. رغم المشقة والجهد الذي يبذله من جراء هذا حتى يطمئن على وصولها سالمة آمنة..
السيد الفاضل جاء نازحًا من ميت عقبة، شأن كل النازحين فى مدينة 6أكتوبر من المحافظات الأخرى وجحيم القاهرة التي يطلقون عليها (تحت). وتحت هذه تعني السفر إلى القاهرة أو الجيزة لبعد المسافة وإنْ كان هذا غير حقيقى.. فالمسافة مع مرور سلس ومنظم لا يتجاوز الساعة.. لكن للزحمة الشديدة وطول المسافة التي توصف بالسفر وملل الانتظار، والمرور المُعقد فى شوارعنا المزدحمة بشدة ، فيقول وهو يتأوه بضجر: (ياه دا أنا نازل تحت).
رغم النظام والنظافة والهدوء الذي تتميز به المدينة خاصة في الأحياء المُميزة، ويقطنها الأثرياء فى أحياء بعينها ، إلاّ أنها أوشكتْ أنْ تأخذ روح مدن القاهرة الكبرى في التزاحم والتكدس خاصة في بعض أحيائها ، والتى أصبح يُطلق عليها أحياء شعبية مثل الحى 11 أو 12 أو 10.
يستيقظ السيد الفاضل في يوم حضور الموعد المُقـدّس لسندس.. الذي يحدث فقط مرتيْن في الشهر بعد الفجر مباشرة، يصلي الفجر حاضرًا وإنْ كان لا يحدث هذا إلاّ مرتيْن في الشهر، دون منبه، ، بكل الهمة والنشاط والحب والتلهف والشوق لكل ما بقي له في الحياة، ويعيش من أجله، ويبدأ في إعداد الطعام، الذي تحبه ابنته سندس، بعد أنْ يكون قد ملأ الثلاجة الإيديال النصف عمر، المُستعملة ما يلزم لتجهيز ثلاث وجبات رغم إصرار سندس على عدم تناول العشاء معه، لإمتلاء معدتها بطعام الغذاء، وإحساسها بالشبع التام، لكنه يُصر فتأكل من أجل إرضاء متعته التامة في تناول الثلاث وجبات معها.
عندما تحضر سندس، تذهب مباشرة إلى غرفة النوم، كي تستبدل ملابسها وغالبًا بلباس جديد أحضره لها، ويجب أنْ يراه عليها، قبل أنْ تأخذه وتحتفظ به، فربما لا يراها به مرة ثانية، ويبدأ في إعداد الإفطار، والحديث الطويل عن عالمها الجديد في الجامعة، فقد كانت في السنة الأولي من الجامعة، ويطلب منها السيد الفاضل أنْ لا تنسي شيئــًا لا تحكيه عن نفسها وعن صديقاتها، وسط ثنايا الحديث الذي يُـضمّـنه الكثير من المزاح والتفكه.. ويطلب منها أيضا أنْ تحكي له عن أخبار الأم، وأحوالها مع زوجها، وتتلعثم سندس في بادئ الأمر، ثم تستسلم أمام رغبة والدها، وأمام كل ما ترويه سندس عن حياتها وحياة الأم، تـُذكــّره بإلحاح أيضاً أنْ يسرد لها قصة حقيقية من عالمه القديم أو من ذكرياته في المحاماة والأسرة، وأيام الشباب والعربدة التي لا يخجل من أنْ يذكرها ويتسامر فى البوح عنه مع ابنته التي يُـشعرها بحديثه عنه ، أنها صديقته، والوجه الآخر لإلقاء الحقيقة بكل صدقها وأخطائها وزلاتها، ولا يخجل فى طرحه أمامها.. أيضًا لإستخلاص خبرة وتجربة تعلمها وتـُخبرها عن ماهية وطبيعة العالم الذى نعيش فيه.. لتتعظ وتستفيد وتتوخى الحذر وقراءة البشر والأمور ببراعة بحنكة المُـتمرسين فى عراك الحياة.. هذا حقيقة ما كان يهدف إليه السيد الفاضل بفطنته وحكمته التي خرج بها من رحلته مع الحياة.
عادة ما تبدأ حكايات السيد الفاضل العجيبة التي يدخرها لحبيبته وصديقته وقرة عينه سندس بعد الغداء.. وقد تمّ تنظيف المطبخ والشقة، تتولى هي هذه المهمة والأب يُساعدها بفرحة غامرة، فهو طاه بارع، ورجل نظيف ومرتب، وأستاذ في تنسيق الشقة، وترتيبها على أبلغ وجه، يفوق أي سيدة ملكة في بيتها.. لكنه يترك المجال لسندس حتى تـُصبح جوهرة فى بيتها القادم إنْ شاء الله مع زوجها المنتظر.. أمنيته الأخيرة له فى الحياة.
حينئذ يجلس على الكرسي الهزاز، ينتظر كوب الشاي الأخضر من يدها.. لأنه النوع الذي نصح به بعض الأصدقاء لحرق دهون البطن الزائدة ويزعجه جدًا، ويُعكر صفو احتضان سندس كاملا عندما يهفو إلى احتضانها بقوة، وبحنان زائد عن الحد يريد أنْ يُعبّر عنه بكل جوارحه.. وتشعر سندس بنبض قلبه الذي تتربع فيه كأميرة ، وأمل حياته كاملاً.
يرشف رشفة قوية من الشاي الساخن الذي يحب شرابه ساخنــًا ، ويبدأ في الحكي بهدوء ورصانة :
- كان هناك رجل وأسرته، يركبون المركب الصغير كالمعتاد في تلك الآونة من ذاك الزمان والمكان، بإرتياد المعدية من منطقة (الكيت كات إلى الزمالك)، فجأة غرقتْ المركب الصغيرة، وسقطتْ الزوجة والطفلان، اللذان كانا لا يزالان صغيريْن.. يعد الأول حوالي أربع سنوات والثاني سنتيْن، وتصاعد الموقف وأصبح دراميًا للغاية مع انقلاب المركب، والمراكبى المسكين يُحاول بكل جهد ودأب أنْ ينقذ الزوجة والطفليْن، غير مُهتم وغير مُبال بالرجل الذي سقط أيضًا في ماء النيل، لكن ساءتْ الأمور، والمراكبى يُعافر ويصرخ عسى أنْ تـُحاول الزوجة أنْ تلحق بطفليها وتمسكهما، حاولتْ الأم المسكينة، لكنها مثل الطفليْن لا تعرف السباحة، فغرقتْ مع الطفليْن وشهقتْ الأنفاس الأخيرة والمياه تملأ جوفهم، ويذهبون بعيدًا كل في ناحية وقد غرقوا وماتوا وشبعوا موتــًا. بُهتَ المراكبى الموجوع، متعبًا من محاولاته الفاشلة لإنقاذ الأم وطفليها، ظلّ عالقــًا في الماء، دون حراك لفترة من الوقت والذهول والصدمة سمّرته في مكانه كالحجر، لا يقدر على فعل أي شيء من وجل الصدمة الفادحة حتى ، استفاق على رؤية الزوج الذي نسيه تمامًا... وقد باغت الجميع الذين حضروا بعد فوات الأوان علي الشاطئ من الجهتين ، وهو يُحاول النجاة بنفسه بالتعلق بخشبة لإنقاذ حياته بأي شكل .. فهو أيضًا يبدو أنه لا يعرف العوم، ولم يبال أو يهتم بما حدث لأسرته.. وقد تركهم يلاقون مصيرهم بكل قسوة.. ولم يُحاول أنْ يفعل لهم أي شيء مثلما فعل المراكبي المسكين، واهتم فقط بإنقاذ حياته، وفعلاً وصل إلى الشاطئ، والناس في حالة استغراب شديد ،وتساؤل ،وتحسر، يُمصمصون أفواههم وقد انهالوا عليه بالشتائم واللعنة من رد فعل هذا الرجل، فما كان من المراكبي إلاّ أنْ يذهب مهرولا إليه في وسط الماء. وقد كاد الرجل أنْ يقترب من الشاطئ، ولفحته صفعة ، عنيفة ، وشديدة على خده الأيسر، وانهال عليه بالضرب.. وجذبه من رقبته ليغطسه في الماء حتى يموت وهو يسب ويلعن ويشتم به بكل قوته، التي عادت إليه فجأة من حجم غضبه وحقده على هذا الرجل الحقير الواطي، الأناني، الغبي، حتى أنقذه أحد الواقفين من يده وحمله إلى الشاطئ، والرجل أنفاسه تلهث، وجسمه ينتفض.. وعندما لمح المراكبي والشر لازال يملؤه وعيناه تتسعان وتلمع من لهب الغل والانتقام منه، حاول استعادة قوته، وأخذ يجري على الشاطئ بعيدًا عنه مرددًا بهذيان ولوثة واضعًا يديه على رأسه :
- سلامتك يا راسي.. سلامتك يا راسي.. يالهوي ياما...
- يا لهوي يا راسي... سلامتك يا راسي...
الناس أجمع يشاهدون بتأثر بالغ دراما كوميديا سوداء تفوق الخيال تحدث أمامهم، لا يعرفون أيضحكون أم يبكون مما فعله هذا الرجل وقد ظلّ يركض، ويقع ويركض.. وكلمة سلامتك يا راسي.. سلامتك يا راسي .. يُردّدها كالمهووس ؛ الذي أصابته لوثة من الخبل حتى خارتْ قواه تمامًا وفقد الوعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى