مصطفى عوض - الإغواء الأخير

يا رب... أنا غير مستعد للموت الآن، كيف يمكن أن أرحل وأنا مثقلٌ هكذا بالخطايا؟
لا أريد أن أموت الآن...ولا في أي وقتٍ آخر إن أردت الصدق، أعرف أنه مصيرنا جميعاً، لا شئٍ بقادرٍ على قهره، وأنني سأموت حتف أنفي ذات ليلةٍ باردة، أكره الشتاء، يحيلني اللون الرمادي القاتم إلى كتلةٍ من كآبةٍ، وشجن، سأدخل لأستريح قليلاً..سأرتدي (الروب دي شامبر) الأسود الغليظ، وغطاء الرأس الصوفي، وأتكفن بثلاثة أنواعٍ من أغطيةٍ ثقيلة..سأحمل معي رواية (الإغواء الأخير للمسيح) تلك التي بدأتها من ستة أشهرٍ، ولم أنته منها قط! توقفت عند هذا المقطع، فلم أستطع تجاوزه:
(يا إلهي! تصور الحياة التي لابد أن الرب المسكين يمر بها بدوره، لاشك أنه تورط في خلق العالم، إن السمك يصرخ: لا تعمني يا رب، لا تجعلني أدخل الشباك! ويصرخ الصياد: يا رب اجعله يلج الشباك! فإلى أيٍ منهما يجب أن ينصت؟!)
لليالٍ طويلة، كنت أتخيل نفسي سمكةً تتحدث إلى الرب، تعاتبه برقةٍ، وبصوتٍ تحمله الفقاعات الصغيرة إلى السطح، حيث يمكن أن يسمعه جيداً
(وما ذنبي أنا يا رب إذا كنت قد حكمت علي بأن أخلق بزعانف، وخياشيم، ولحمٍ طري، وجعلتني عرضةً لوحوش البحر والبر طوال الوقت؟ قد ينتهي بي الحال بين فكي قرش، أو في مقلاةٍ بها زيتٌ يغلي، وامرأةٌ بائسةٌ، تقلبني على الجانبين، وهي تلعن السمك، والزيت، والبحر، والدنيا وما فيها؟ لم لم تخلقني إنساناً مثلاً، أو طائراً)
كنت أقول لنفسي، ثم سرعان ما أتأمل انعكاسي في المرآة مندهشاً:
لكنني بالفعل إنسان! وأنا غير راضٍ عن هذا بالمرة...وطائري المعلق بين السماء والأرض طوال الوقت، في محبسه الضيق، يبدوا غير راضٍ أيضاً! ربما لو خير، لاختار أن يكون سمكة، أو ربما ورقة شجرٍ تدور مع الريح إذا هبت، ثم تصفر وتذوي تحت أقدام شجرةٍ، في غابةٍ عنيقةٍ منعزلة، أو تسحقها قدمٌ مسرعةٌ على رصيف مدينةٍ بلا ملامح...أما أنا فأعرف مصيري...سأبقى فوق هذا الفراش لعدة أيامٍ، بيدي كتاب (كزانتزاكيس) ومسيحه المراوغ، حتى يضج الجيران من رائحة عفنٍ، يتتبعونها إلى ما تحت عقب باب بيتي، سيكسر ون الباب -بعد طرقه عدة طرقاتٍ عنيفةٍ بالطبع- ثم يدخلون مباشرةً إلى غرفة نومي، حيث ستقودهم ولابد الرائحة، كغيمةٍ كثيفةٍ منتنةٍ تدفعها الريح بعنف...لم أكن أحب الموت، ولا زلت لا أحبه، لكنني منذ قرأت (انقطاعات الموت) لسراماجو، تكون لدي انطباعٌ ما تجاهه..انطباعٌ يشبه هذا الذي يشعره مريض السرطان قبل بدء جلسة العلاج الكيماوي! هو شئٌ سئٌ ورديئ، لكنه حتميٌ لدفع ما هو أشد قسوةً، ورداءة، أو على الأقل، تأجيله إلى حين
-ما هي أغبى فكرةٍ طرأت على ذهن بشريٍ منذ بدء الخليقة؟
قال الذي جلس بجانبي فجاةً دون دعوة
-الطيران؟
أجبت دون تفكيرٍ، فضج بالضحك، وقال:
-لكنه يطير بالفعل
-التنفس في الماء؟
-يالك من أحمق! الإنسان بنى مدناً تحت الماء
-غزو الفضاء؟
-غزاها، وانتهى، وأقلق سكينة الكون الصامت منذ بدء الخليقة، وهو في طريقه لإفساد كل شئٍ كما أفسد الأرض
صمتُ، باحثاً في رأسي عن إجابةٍ
-الخلود
قال، وكدت أفتح فمي مقترحاً حماقةً جديدة
-الإنسان يريد قهر الموت! تخيل لو حدث هذا؟ أي مصيرٍ ينتظر هذا الكون البائس؟ وأي مصيرٍ ينتظره هو شخصياً؟
تذكرت كل حرفٍ قاله، بينما المشنقة تتأرجح أمام عيني، كنت قد قتلت طائري الصغير، مددت يدي للقفص..قبضت عليه، ولم يبد هو مقاومةً تذكر..أمسكت برأسه، وجذبت بشدةٍ، فانفصلت عن جسده، تناثر الدم مغرقاً وجهي، وملطخاً الحائط، وملابسي، وفراشي، وكتبي بلونٍ أحمرٍ قاتمٍ أقرب للسواد، حين اقتحموا منزلي بالخراطيم الضخمة التي تضخ الماء كسيولٍ جارفةٍ محاولين إنقاذي من الحريق الذي التهم كل محتوياته -ماعداي- كنت أراقب قطتي التي تدور صارخةً، بين أركانه كتلةً من لهبٍ، تتخبط في الحوائط..تتقافز فوق الكراسي الجلدية، وأسطح الطاولات الخشبية، وفوق السرير، لم أشعر بالشفقة عليها كما شعرت تجاه سمكة الزينة الصغيرة، التي أفرغت حوضها من الماء، وجلست أراقبها، بينما تستجدي القليل من الأكسجين -هل تتنفس الأسماك الأكسجين؟ لست أدري- محركةً فمها، وزعانفها بآليةٍ، ورتابة، حتى خمدت، وعادت لترتسم ظلاً مخيفاً على الحائط، بأنيابٍ قاطعةٍ، وتقترب لتلتهمني، بينما القاضي ينطق حكم الإعدام الذي أراحني كثيراً، ساعتها، لكنني الآن..في تلك اللحظة التي يجهز فيها الموت تراتيبه الجنائزية، فاتحاً أمام فضولي طاقة العدم، أجدني مضطراً لاستجداء بعض الوقت، فلدي قائمةً طويلةً من الاعتذارات علي أن أقدمها، لطائري الذي تأخرت كثيراً في منحه الحرية، ولسمكتي الصغيرة لأنني لم أمنحها شرف الدفع بها مقليةً في طبقٍ معرشٍ بالخضروات، والبطاطس المحمرة لضيفٍ عزيز، ولقطي لأنني لم أمنحه وجبة عشائه الأخيرة قبل أن يحترق، ولكزنتزاكيس الذي لم أستطع أن أنهي روايته قط، ولسراماجو الذي أنخمني بهذا الشعور المريح -نسبياً- تجاه الموت، فلعنته، وسببته، بشتائم لم تكن لترد على خاطر مهذبٍ مثلي! بالطبع لن أعتذر لحارس عقارنا الذين قيل أنهم وجدوه جثةً متفحمةً، مذبوحةً، ومبتورة الأطراف في شقتي، بعد أن أخمدوا الحريق، فهو يشتري لي القهوة، والسجائر، ويضع الجريدة اليومية أمام الباب، ويناديني بالأستاذ...أي أحمقٍ يمكن أن يتورط في جريمة قتل شخصٍ يناديه بالأستاذ؟ كما أنه يرسل ابنته المراهقة، ذات النهدين النافرين، والمؤخرة المثيرة- وجدوها نصف محترقةٍ، جاحظة العينين، حول عنقها ايشاربٌ متسخٌ مقيدةٌ إلى البانيو، ومغتصبةٌ بشكلٍ عنيف- كل جمعةٍ لتنظف الشقة، وتغسل ملابسي، كما أنها كانت تسمح لي بلمس مؤخرتها، والعبث بنهديها، مقابل خمسة جنيهاتٍ إضافيةٍ، تخفيها عن والدها الذي لا يكف عن جلدها بحزامه الجلدي، وإطفاء السجائر في لحمها المزرق، فلم سأغتصبها إذن؟! زد على هذا أنني نهرتها بشدة، حين أسرت لي -وكان نهداها بين كفي كرتين من ملبن- برغبتها في الموت هرباً من ذلك الوحش، وكدت أصفعها...بل و ربما صفعتها بالفعل! كانت قوةٌ ما الآن تدفعني نحو (طبلية) الإعدام، وتدفن وجهي، ورأسي تحت قناعٍ خشنٍ، فغصت في الظلام..صرخت حين التف الحبل الغليظ حول عنقي:
-لااا ليس الآن...امنحوني القليل من الوقت...القليل فقط...
كنت أضرب الهواء بقبضتي، وساقي اللتان غاصتا في بطن هذا الذي حاول الإمساك بهما، فطار ملتصقاً بالحائط، وأصرخ بهيستيريا..لكنني أجبرت على الصمت، تحت وطأة ثقل هذا الضخم، بردائه الأبيض، ووجهه شديد السمرة، الذي ألقى بنفسه على صدري، فجحظت عيناي، وفتحت فمي -تماماً كسمكتي- مستجدياً بعض الهواء..شعرت بخيطٍ من نارٍ يخترق ذراعي، وبسائلٍ ثقيلٍ يسري في وريدي..بعدها غامت الرؤية أمامي...وغصت في الظلام من جديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى