عبدالله البقالي - هدير الأزمنة

في التاسعة مساء، تصل الحياة في آسا إلى آخر أنفاسها بعد أن يتوقف محرك الكازوال عن انتاج الكهرباء. وبذلك تنطفئ الأضواء في الشوارع والبيوت، ليسود الصمت،فلا موسيقى ولا برامج واخبار.. لكن هذا الوضع قد يعرف استثناء من حين لآخر. وهو بمثابة إعلان يفيد أن القبطان"زروق" في أفضل حالاته، لهذا فمزاجه الرائق، يسمح بمد المحرك بما يحتاجه من كازوال وفقا للزمن الذي ستستغرقه السهرة. وهي فرصة يعمل الكثير على ان يكون على علم مسبق بها، كي يرتب حاجياته وفقها، لهذا يوثقون علاقاتهم بطاقم القبطان الذي كان يضم فرقا من مختلف التخصصات. فهناك فريق مختص بالسهرات، وفريق مختص بالامور الدينية، وفريق بالرياضة، وفرق اخرى مختصة بمجالات تهم الجنود.
لكن زروق ليس بالقبطان الوحيد الذي كان بآسا، فهناك قبطان اخر مختص بالتدخل السريع تابع للقوات المسلحة، وهو باستثناء لعب كرة القدم، فلم يكن يشارك المدنيين في اي نشاط. كما ان هناك قبطان ثالث من آسا، وجنوده كانوا مرابطين على الجبهات، لكنهم لم يتعرضوا لاي هجوم طوال تاريخ تواجدهم هناك، كما ان قبطانهم كان يتمتع بمعاملة المدلل، اذ في حركة ترقية الضباط، لم يرد اسمه في لائحة المترقين على اعتبار انه استفاد من ذلك في السنة السابقة
فما كان منه الا ان غادر الجبهة وقصد العاصمة، وعاد بعد ايام وهو يضع على كتفه رتبة أعلى.
والحديث عن الرتب يستوجب بالضرورة التوقف عند شخصية عامل الإقليم التي كانت تزور آسا كلما حدثت هزة سياسية تستوجب تطويق وحصر مؤثراتها. و المثير في هذه الشخصية ليست صفتها كعامل للإقليم، بل ذلك التفرد العجيب الذي يزاوج بين متطلبات ما يجب ان يتحلى به كرجل سلطة، وبين قناعاته الشخصية. وهي صفة لم يتميز بها إلا ذلك الصنف من رجال السلطة الذين كانوا من قبل من رجالات المقاومة وجيش التحرير.
الرجل كان تعليمه بسيطا، او على الاقل هكذا يبدو. وهو لا يتكلم اي لغة أجنبية. وهو من اجل تجنب اي احراج، فقد أمر الموظف المكلف بالاتصالات، أن يحيل اي متحدث بالفرنسية على الكاتب العام. وحدث مرة ان لم يكن الكاتب العام متواجدا، فلم يجد بدا من تحويل المكالمة الى العامل. وطوال المكالمة لم يستعمل سوى مفردتين oui. D accord
وحين انتهت المكالمة، رفع العامل السماعة وقال للموظف" حط لمك داك السماعة. ونجي نلقاك فالحبس"
لكن على بساطة الرجل التي يظهر عليها، فقد كان فيه شى ما غامض جعله يستحق هذا المنصب الكبير. فهو يتواصل مع الجميع بمنتهى السهولة. ويقوم بعمل فجائي كأن يتوقف فجأة ويتجه الى مقهى او محل تجاري، ويطالب صاحبه بلائحة الاسعار. كما يزور الادارات. ويعامل رجال التعليم معاملة اقرب الى القداسة. و ينظم على شرفهم حفلا سنويا عند كل نهاية سنة دراسية. ولا يعتقد انهم حظوا بمثل هذا الاعتبار في اي جهة من جهات البلد.
غير ان شهرة الرجل لم يكن ذلك هو مصدرها. بل كانت الخطب التي كان يلقيها على السكان كلما حدثت انتكاسة سياسية. فبعد اعتراف منظمة الوحدة الإفريقية بجبهة البوليزاريو كممثل للشعب الصحراوي، انسحب المغرب من المنظمة. وبذل جهدا من أجل امتصاص اثار تلك الرجة. وحضر العامل لآسا وقال للناس: من يكون هؤلاء الذين نصبوا انفسهم متحدثين باسم التاريخ والحقيقة؟ جماعة من المقامرين سطوا على السلطة بالغدر والانقلابات ليزعموا انهم صوت الشرعية التي هي اول ما يفتقدون اليه. وتصرفوا مثلما يفعل شهود الزور في المحاكم، ونالوا مقابلا سيكشف التاريخ ان عاجلا او آجلا كم تقاضى كل واحد منهم.
لماذا انسحبنا؟
نحن دولة عمرها اثنا عشر قرنا من الحضارة والمدنية. والحكم عندنا له شرعية واصول، وتاريخ تنحني له الامم. وملوك يحفظون أسس الملك. هل يجوز بعد هذا ان نتساوى مع غاصب ونجعله في مستوى سليل الأصل والفصل؟
هناك امر اخر. البلد الذي نظم فيه المؤتمر ان اردت إشعال نار الفتنة فيه، فلن تحتاج الى مال ولا الى سلاح. فقط طائرة وكيس من الخبز. وفوق كل مدينة الق بعض الخبزات، وسترى بعدها نيران الحرب تشتعل.
ماذا بقي لهم؟
لم يبق لهم بعد الذي اقترفوه سوى ان يعلنوا انكم لقطاء، و انكم لستم احفاد المرابطين والموحدين.
شى ما عميق حركه في داخلك هذا العجوز. أنت لست بصدد نقاش نظري، لكنك مجبر الان على تحديد الفارق الذي يرسمه البعد بين "نعم" و"لا". وقبل هذا فأنت مجبر على تحديد موقعك من أحلامك، وما ان كنت مازلت قادرا على تغذيتها بالزاد الذي تحتاجه كي تستمر.
لقد كنت من الجيل الذي حلم بتحقيق الوحدة من المحيط الى الخليج كحلم كبير، لكنه لم يكن الحلم الوحيد، فقد كان يقف الى جانبه حلم التحرر و الديمقراطية. غير انك ترى الآن أن كل الفؤوس تفتت صرح أحلامك، فالتشتيت والتفتيت هو المنشار الأكثر نشاطا، و الديمقراطية تلفظ أنفاسها تحت أحذية الاستبداد.....


==========



في المساء، كان المزاج السائد في البيت رائقا جدا. حتى ان الاصوات كان يمكن التقاطها من مسافة بعيدة. وهو ما يوحي ان هناك حدث قد كسر الرتابة ودفع بالجميع لمغادرة غرفهم والتجمع وسط الفناء.
عند المدخل كانت تنتشر رائحة الحشيش بشكل كثيف، وحين اطلت من الباب تعالت اصوات الضيوف: تعال... ومد احدهم لفافة محشوة بالمخذر واضاف: تبرك من بركات سيدنا العامل
بدا الامر مغرقا في الالتباس، واضاف الخيبري: في كل زيارة سنعيش الطقوس ذاتها. وسنستمتع بجود الجوادين.
كان المشهد مسليا بالفعل في ان يجتمع كل هؤلاء وبتلك الروح التي غابت عنها المناوشات وتباين الآراء الذي كان يصل حد الصدام كما في السهرات السابقة. وهو ما يفيد ان شيئا غير عاد قد طرأ واثر في امزجة الحاصرين. وكان سألت: ما مصدر عذه البركة؟
ارتفعت موجة حادة من الصحك. ونظراتك الماسائلة زادتها حدة. وفي النهاية قال علوان: الإنسان لا يتعلم دقعة واحدة. والفهم كأدراج سلم، الرغبة والعزم هما من يحدد المدى الذي يمكن الوصول اليه.
كان واضحا ان علوان في قمة اناشائه، وهو حين يكون في حال كهذا، يجنح الى فلسفة كل شى حوله. لكن عند حد ما، كان يجد نفسه مفتقرا لشى ما يعيقه وبحول دون الاستنتاح الذي يرغب في الوصول اليه. وحينها كان يعمد الى التخلص من زي الثقف الذي بحاول ان يلبسه ثم يتجه صوب اي نهاية. قال لم: تعال واجلس الى جواري.. واضاف: انا ابن الجنوب. وكما في التاريخ، فالجنوب هو الرحم. والشمال هو الذرية. وهذه الرقعة الضيقة ستلقنك اشياء كثيرة لا علاقة لها بكل ما ترسب في ذهنك من سنين تنشئتك. وكمثال لما اقوله هو هذا المخذر الذي يحصل المتعة ويمكنك من قعر الاحساس بالزمن. هذا المخذر وصل الى هنا من خلال موكب العامل.
اثار ما قاله دهشتك ثم اضاف: العامل كأعلى سلطة هنا له دراية بكل شئ ، الا بأمر عازفين موسبقيين ضمن الفرقة النحاسية التي تنشط فقرات الاحتفاءات بوصوله.
يسيطر عليك الذهول اكثر فأكثر، لكنه أضاف منتقلا الى ما هو اهم من ذلك: أنت مثلا بكل هذه المثالية التي تعتقدها عن نفسك، ستحولك الايام الى القيام لالدور نفسه مع فارف بسيط.
قلت مستنكرا: أنا ؟
هز ر٦سه وقال : نعم انت، و الايام بيننا.
قلت معترضا ومحتجا: لت يمكن ان يحدث ذلك.
علق: هذا ان ظللت ممتلك لإرادتك.
قلت: كيف؟
قال: عندما ستحصل على بعض الغرامات من المخذر، نتيجة توصية او صدفة، سيعلم كل هؤلاء بذلك. وسنزورك لنجد نفسك بين خيارين. إما أن تكون حاتميا ونستهلك كل ما بحوزتك بالمجان، او تقتسم معنا الغنيمة من اجل الحصول على مقابل، وهو ما سيؤهلك للحصول على نصيب متى تبين لك ان احدهم قد وصلته بضاعة. هذه ليست تجارة، هذا نسميه هنا بالرواج التضامني ان شئت، وستجد له مريدين داخل جماعات مغلقة في مجال عملك او في مخفر الدرك او الثكنات.
كانت صدمة قوية وانت تطل على العالم من هذه الشرفة التي لا يظهر لها وجود، ولا تنتفح لأي كان. لكنها كامنة هنا وتمكنك من رؤية المساحات الخلفية التي تمتد وراء كل واحد من الاشخاص الذين يبدون في انسجام تام داخل الحياة.
تخرج الى بوابة المنزل محاولا ان ترى ما تبقى من المساحات التي لم يغمرها الظلام. تتذكر ان ها هنا فبور واضرحة لثلاث مئة وستين وليا صالحا يرقدون في اعالي الحبل. يبدو لك العدد اكبر حتى من عدد الأحياء الذين يتحركون هنا. لكنك تستشعر ان خناك جاذبية خفية هي التي جعلت من المكان محجا لكل اولئك. تحاول ان تقارن حالك مع حال هؤلاء حتى وان كان الفارق صارخا. لكنك تنتبه ان ارضا بهذه المواصفات لن يبحث فيها قاصدها على ان تكون مصدرا لإسعاد الجسد. بل القصد هو العكس تماما ، وان قهر الحسد وكتم انفاسه هو السبيل لإسعاد شئ ما داخل الانسان. وهم اختاروا طواعية ذلك ولم يجبرهم احد، وهذا هو الفرق بينك وبينهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى