مصطفى نصر - لحظة صفـــاء

ترك حامد قريته منذ أكثر من أربع سنوات, دفعته أمه إلى ذلك دفعا, قالت:
- عمك زاهر أصبح غنيا فى الإسكندرية, وليس عنده أولاد, وعندما يراك سيقربك إليه وستكون- أنت – الكل فى الكل.
لكن عمه زاهر لم يعبأ به.هو حقا رحب به أول الأمر ودعاه إلى بيته وعرض عليه أن يقيم فى مسكنه, لكن العرض لم يكن متينا, فعمه معروف لدى أقاربه " وبلدياته " بأنه لا يحب أن ينام أحد فى بيته.
وافترقا.عمل حامد أعمالا كثيرة: كاتب فى مكتب محامى, وبائع فى محل كبير ومشهور فى الإسكندرية. لكنه لم يستقر فى عمل ثابت ودائم .وأحس بأنه قد اخطأ عندما ترك قريته، فقد جاء من أجل أن يعمل لدى عمه، وعمه لم يسأل عنه. لا يتقابل معه سوى فى المناسبات: الأعياد, أو حين يجتمع أهل القرية – المتواجدون فى الإسكندرية – فى الملمات أو الأفراح. وقتها يحنو عمه عليه ويشده إليه:
- كيف حالك, لماذا لا تأتى لزيارتى؟
ويتمتم حامد بكلمات غير مفهومة ثم يفترقان.
00
فى هذه المرة اجتمع الأقارب فى" الصوان “ الكبير. الشيخ محمود يسمع المقرئ ويحرك رأسه وكتفيه مع الترتيل, يقترب المعزون منه – رغم قراءة القرآن – يشدون على يده, يحاول بعضهم تقبيل يده التى تمسك المسبحة, وهو يبعدها مسرعا.
درس الشيخ محمود فى الأزهر حتى حصل على العالمية. يعيش الآن بين قريته وبين القاهرة والإسكندرية حيث له مشاغل فى كل منها. يلجأ إليه أهل القرية – الذين تركوها وعاشوا بعيدا عنها – إذا قابلوه خارج القرية. يسألونه فى أمور الدين والدنيا, فهو حكيم فى الأثنين.ويحتكمون إليه فى المشاكل التى تنشأ بينهم.
تابع حامد الشيخ محمود من بعيد. فكر فى أن يسرع ليصافحه, لكنه فضل أن يبقى حتى ينتهي المقرئ من قراءته.بعدها أسرع إليه.قال الشيخ:
- كيف حالك يا حامد. والدك كان رجل طيب.
- أريد أن أتحدث إليك فى أمر مهم.
- بشأن عمك زاهر, أليس كذلك؟
- أربع سنوات فى الإسكندرية لم يقربنى إليه.عماله كثيرين, كلهم أغراب.
- هل أنت فرح لأن عمك فى هذه الحالة من الغنى؟
تلعثم حامد وأراد أن يقول أي شيءفأسرع الشيخ مكملا:
- أصدقنى القول ولا تكذب.
لم يجبه حامد.
- هذه – يا أبنى– المشكلة. مال عمك أقرب إليه منك؛ لأنه جمعه بكده وتعبه ولا يرضى أن يذهب إلى أحد يكره النعمة لصاحبه.
صمت حامد وأحنى رقبته كأنه يعتذر عن عمل كريه أتاه ويخجل منه. ربت الشيخ ظهره قائلا:
- أجعل قلبك صافيا وأتجه إلى الله بصدق, وحينما تحس بأن عمك أحق بماله من غيره؛ سيأتى المال إليك دون أن تسعى إليه.
تركه الشيخ فى حيرة, صافحه وهو شارد. وصافح عمه زاهر وهو شارد أيضا, لا يدرى ما الذى قاله عمه, هل دعاه إلى البيت ككل مرة يقابله فيها,أم لا.
عاد حامد إلى بيته, شقته متواضعة, يعيش فيها وحده منذ أن جاء إلى الإسكندرية.أحس برغبة فى البكاءإنه لم يسأل نفسه ذلك السؤال الذى باغته به الشيخ محمود.ماذا, أيكره النعمة لعمه.ألا يريده أن يكون غنيا,أيحسده على ماله وغناه؟!
كان – قبل أن يأتى إلى الإسكندرية – يتحدث مع أمه عن الثروة التى نزلت على عمه دون رضى منه ومنها.
بكى حامد. فعمه فى منزلة والده. فلماذا يحس نحوه بذلك الإحساس الغريب.عمه يعرف حدود الله.لم يسرق,لم يأت بماله عن طريق غير شريف,كما أنه ليس بخيلا. وأن كان لا يحب لأحد أن ينام فى بيته,فهذا حقه.فلديه زوجة وعالمه الخاص الذى لا يريد أن يشاركه فيه أحد،ولا يستطيع أن يلومه أحد لذلك.
قام حامد وصلى العشاء.ظل فوق سجادة الصلاة لوقت متأخر دون صلاة.أحس بالخجل من نفسه.لاشك أن عمه كان محقا فى عدم عرض العمل عليه .فقد كان يقرأ الحسد فى عينيه. إنه – الآن – لا يريد أن يعمل لديه.ولن يسعى إلى ذلك.من الغد سيعود إلى قريته.يبقى بجوار أمه؛فمن الممكن أن يلمح عمه ذلك الحسد فى عينيه ثانية لو ظل موجودا فى الإسكندرية بجواره.
نام فوق سريره حزينا.سيكتب رسالة إلى أمه فى الغد:" لا أريد شيئا من عمى, ولا من غيره, وأنا قانع بما قسمه الله لى من رزق "
لا يدرى حامد متى نام.استيقظ على دقات عنيفة على الباب.فأسرع فزعا ليفتحه: اللهم اجعله خيرا.
وجد عمه أمامه ظنه آت ليلومه: "كيف – يا ابن أخى– تكره النعمة لى؟!
- أمازلت نائما؟!
- نعم.
- لم تصل الفجر؟
- كنت متعبا ليلة أمس.
- أرتد ملابسك مسرعا وتعال معى.أموالى فى يد الأغراب وأنت ابن أخى– أقرب من لى– بعيد عنى. لم تفكر يوما فى الوقوف بجوار عمك.
ظن حامد أنه يحلم, وأن ما يحدث – الآن – نتيجة لتفكيره فيما حـــدث لـه بالأمس. لكن عمه صاح فيه:
- أسرع وارتد ملابسك, سنتناول الإفطار فى مطعم شركتى, فلابد أن استلم عربة كبيرة محملة بالبضائع بعد ساعات قلائل.
- حاضر يا عمى.
وأسرع حامد بارتداء ملابسه غير مصدق لما حدث.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى