بدوي الدقادوسي - الحارس الذي لا يبتسم.. قصة قصيرة

لا أنكِر أنني كنت– أولَ الأمر - راضيًا تمامًا بعملي، ولم يكن رضاي ناتجًا عن طبيعة العمل ولا عن ظروفه، ففي الحقيقة لم يكن عملاً بالمعنى الدقيق للكلمة.. كان وجودًا بلا قيمةٍ ولا معنى، لم أكن أؤدي شيئًا على الإطلاق. كل المطلوب أن أظل واقفًا أمام تلك البوابة الضخمة، لا أتحرك ولا أنتقِل، لا أجلِس ولا أتحدّث... كان الرضا طبعًا فيَّ وجزءًا مِن تكويني.
اختارني الملك حارسًا على تلك البوابة الضخمة، التي يكشف بناؤها وأسوارها العالية عن مكانٍ متسعٍ فسيح لا نهايةَ له، وأخبَرني أن هذا المكان أعدّه لأحبابه الذين يُجِلّونه ويوقّرونه، وأنه سيستقبلهم يومَا ما، وسيُدخِلهم ليسكنوا فيه، شدَّد عليَّ أن أكون مبتسمًا دائمًا، وهو ما يتفق مع طبعي تمامًا.
لم يكن مسموحًا لي أن أفتح البوابة، ولا حتى أن أفكر مجرد تفكيرٍ فيما وراءها.. رضيتُ وقَبِلت، وكيف أرفض تشريفَ الملك باختياري دون غيري لحراسة أملاكِه وأراضيه؟ كانت أملاكُه وأراضيه من الكثرة والاتساع بحيث لا يمكن حصرها بسهولة. كان يمكن أن يصيبني الجنون مبكرًا بسبب ما أنا فيه من فراغٍ قاتل، لولا أن شغَلني مؤخرًا الحارسُ الآخر الذي يقف مثلي أمام بوابةٍ ثانيةٍ على الناحية الأخرى.
المسافةُ التي تفصِل بيننا ليست بعيدة، بوَّابَتُه تواجِه بوَّابَتي، يفصل بيننا عشبٌ أخضر. في الفترة الأخيرة بدأت أراقِبه في صمْت.. نتشارك معًا المأساة، مأساةَ الانتظار الطويل الذي لا تبين له نهايةٌ قريبة أبدًا. في البداية لم ألتفِت إليه، وانهمكتُ– راضيًا– في إظهار الجدية والحسم لأفوز برضا الملك، ظنًا مني أن هذه المهمةَ ستنتهي آجِلا أو عاجِلا، أو ربما يتم نقلي قريبًا إلى عملٍ آخر فيه من الحركة ما فيه، لكن مرت حقبٌ وأزمان وأنا على ما أنا عليه، فكان لا بدّ أن ألتفِت إلى هذا الذي يقف مثلي.
بدا لي قويًا وشديدًا، عابسًا مقطّب الجبين، كأنه يعاني أمرًا أو يكابِد شيئًا، لم يخبرني الملك العظيم أن هناك مكانًا آخرَ لأحبابه، هؤلاء الذين يجِلّونَه ويوقّرونَه، ولماذا مكانانِ وليس مكانٌ واحد؟ المكان الذي أقِف أمام بوابتِه مترامي الأطراف، مهما ترجِع البصرَ مرةً إثر مرةٍ يرتد البصر وهو حَسير، كما أن الحارس الآخر مذ راقبتُه وأطلتُ النظر إليه لم أرَ ابتسامة واحدة تعلو وجهه! ربما كان هذا المكان مُعدّا لآخرين؛ فضيوف الملك وأحبابُه كثيرون مِن مختلف البلاد والجنسيات، وربما كان لون البوابة الأحمر دليلاً على اختلافٍ ما لا أدرِكه الآن. لكن سيظل عبوس الحارس وجهامته لغزًا محيَّرًا، ألا يخاف الملك؟ ماذا لو مَر الملك فجأة ورآه على هيئتِه وسِحنته تلك؟ ماذا لو أرسل رسَله لتفقّد المكان؟ ما هذا الذي أقوله؟ لم يحدث مِن قبل أن مَر الملك، كما لم يحدث أبدًا أن رأينا أحدًا هنا، لا مِن رُسلِه ولا مِن عابرين بالصدفة! نَعَم تذكرتُ... أخبرني الملك يومَ أن شرّفني باختياري أنه يراقبني جيدًا من حيث لا أعلم... لا شك أنه يراقبنا معًا الآن، ولا شك أنه مطَّلِع تمامًا على ملامح الحارس الآخر، لا بدّ وأنه سيعاقِبه، ربما يطرده من العمل ما دام مُصِرًا على عدم الابتسام.. كيف لحارس الملك ألا يبتسم؟ ماذا لو جاء أحباب الملك الآن فجأة واستقبلهم الحارس بوجهِه هذا وملامحِه تلك؟ أفكّر في الذهاب إليه وفي الحديث معه، ربما أستطيع أن أقنِعه أن يصطنع ابتسامةً ما تنجيه من المصير الذي ينتظره، لكن الأجدر أن أتعرف عليه أولا، وأن أستمِع إليه فلعل هناك مشكلةً كبرى لا أعرفها، في الحقيقة لا توجد مشكلة أكثر مما نحن فيه معًا، الانتظار الطويل اللانهائي، الصمت المطبِق حولَنا، الوقوف الأبدي دون مبررٍ واضح، الملك ليس فقيرًا، بل هو أغني الأغنياء، يمتلك نفوذًا وسلطانًا وجاهًا، فلماذا بخِل علينا بمقاعدَ أو بآرائكَ نجلس عليها؟ جلوسنا لن يؤثر في عملنا الغريب هذا! يمكننا بالطبع أن نجلس على العشب، لكن أوامره كانت حاسمةً لي، أن أظل واقفًا، ولعلها الأوامر نفسها للحارس الآخر، وهو ما يفسر اشتراكَه معي في الوقوف مذ راقبتُه حتى الآن... لكنني أبتسِم وهو لا يفعل، هل كان ذلك أمرًا له؟ لا أظن.. ما الذي يضير الملكَ في أن يبتسِم حرّاسُه؟!
عليَّ أن أتحرك ناحيتَه، لا بدَّ وأن أفهَم، ربما كان في حاجةٍ لمساعدتي.. في الحقيقة أنا أيضًا في حاجةٍ لمن يساعدني، لا يمكن أن يظل الأمر هكذا دون أي بادرةِ انفراجة.. لكن ماذا لو رآني الملك مِن خلال مراقبتِه تلك التي لا أعلم عنها شيئًا؟ فكما أنه عظيم في شأنِه وسلطانِه لا بدّ وأن يكون شديدَ العقاب أيضًا!
الحل إذًا أن أنادي على الحارس نداءً، لكن لو فعلتُ هذا ربما يصل صوتي وصوته إلى أيٍ ممن هُم على مقربة، لا يمكن أن نكون وحدَنا في هذا المنطقة، لا بدّ وأن هناك آخرين، ربما كانت هناك بوّابات أخرى لا أراها، وإذا كان الملك يراقبني ويراقبه، فبالتأكيد لن يعدم وسيلةً لمراقبة الصوت وسماعِه! ما هذا المأزق؟ وأي ورطةٍ تلك التي أنا فيها؟
رفعتُ يدي أشير له، طوَّحتها في الهواء مرةً إثر مرة، لكنه لا يلتفِت ولا يحرِّك ساكنًا، كأنه لا يراني، دون إرادةٍ مني فتحتُ فمي هاتفًا به، فكانت الكارثة عدم وجود صوت.. انفتَح الفمُ وتحرك اللسان لكن الصوت لم يخرج! حاولتُ مراتٍ ومراتٍ دون جدوى.. ماذا حدث؟! كيف يضيع صوتي هكذا؟ توقفتُ قليلا أتأمل حالتي، أدركتُ أنني لم أفتح فمي منذ أحقابٍ طويلة، الطبيعي جدًا أن أفقِد القدرة على الكلام... كيف إذًا سأرحِّب بأحباب الملك إن جاؤوا؟ ضعتُ تمامًا وانتهى أمري.. سيطردني الملك.. لا بأس أن يطردني، لكنني أخاف عقابَه وانتقامَه، في كل الحالات أنا مَقضِيٌّ عليَّ! ليكن ما يكون، لن أترك الحارسَ المسكين هكذا، ولن أترك نفسي صريعةً للهواجس والظنون، سأتحرك إليه وليحدث ما يحدث.
لم أكَد أُحرِّك قدميَّ باتجاهه رافعًا يدي، حتى رأيته يلتفِتُ نحوي، فاجأني بأنه رفع يده وكأنه يحييني... تحرّك هو أيضًا ناحيتي،لم يكد يخطو خطوتَه الأولى حتى رأيت ثغرَه يفترُّ عن ابتسامةٍ ضعيفةٍ واهنة، لم تكَد تقوَى وتتسع حتى اشتعلت النار فيَّ وفيه في لحظةٍ واحدة!










[HEADING=3]1 commentaire[/HEADING]


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى