قصة ايروتيكة محمود البدوي ـ الباب الآخر

اختارت قطار الساعة الثامنة صباحا الذى لا يقف على المحطات التى فى الطريق .. ويتحرك إلى " الإسكندرية " مباشرة .. كما اختارت مقعدا مفردا فى القطار حتى لا يجلس بجانبها رجل ..

كانت تود أن تذهب إلى مدينة الإسكندرية وتعود فى صباح اليوم التالى .. دون أن يشعر بغيابها عن القاهرة إنسان كما اعتادت أن تفعل ذلك فى المرات السابقة ..

وفى صالة المحطة الخارجية .. وقفت فى زحمة الركاب .. تتطلع إلى اللوحة المضيئة التى تعين رصيف القطار المسافر ..

وكانت ترتدى معطفا كحليا على ثوب من الصوف الغامق محكم النسج ومن أحدث طراز .. وتدير على رأسها وعنقها وشاحا أزرق .. تتقى به برد الصباح فى القاهرة .. ومن احتمال سقوط المطر فى الإسكندرية ..

ومن خارج الوشاح .. بدت خصلات من الشعر الأسود الناعم تتدلى على الجبين المتألق .. وأخذت العينان الواسعتان تتطلعان إلى اللوحة فى بريق يتوهج لحظات ثم ينطفىء فى أسى .. تبعا للجو المحيط كله ..

وكانت الإنفاس رغم البرد الشديد هادئة .. والوجه جميل التقاطيع .. أبيض مستديرا .. والشفة ممتلئة وشهية ..

ووضعت على العينين نظارة شمس أنيقة .. رفعتها وطوتها وهى تفكر .. ثم عادت وردتها إلى أنفها .. بعد أن أدركت أنها لامكان لها فى حقيبة اليد الصغيرة .. ولم تكن تحمل أية حقيبة سواها ..

تعمدت أن تكون خفيفة فى رحلتها وفى تحركها ..

وعندما دخل القطار يتهادى إلى الرصيف .. وجلست على مقعدها المفرد .. شعرت ببعض الارتياح .. كان المقعد فى وسط العربة .. والمسافرون من رجال الأعمال الذين فاتهم قطار السابعة صباحا .. وقد جلسوا يقرءون صحف الصباح .. أو يقلبون أوراقهم الخاصة ..

وأحست بدفء العربة المكيفة .. فأزاحت الوشاح عن رأسها وطوته .. وأخذت تنظر من النافذة عن يمينها ثم خشيت أن يبصرها من الرصيف إنسان تعرفه وهى داخل العربة .. فأسدلت ستار النافذة بحيث ترى هى من يتحرك بالخارج ولا يراها ..

ولما تحرك القطار تنفست الصعداء .. فإن أحدا ممن تعرفهم لم يلتق بها فى الطريق .. وستكون فى الإسكندرية بعد ساعتين وثلث الساعة .. وستعود للقاهرة فى أول قطار يتحرك فى الصباح .. فى الساعة السادسة صباحا ستأخذ أول قطار .. وستكون فى بيتها فى الساعة التاسعة والنصف .. تشرب الشاى على مائدتها كما اعتادت أن تشرب .. وفى الساعة العاشرة ستفتح الباب للشغالة العائدة بعد أجازة يوم قضته عند أهلها ..

وخرج القطار من مساكن " شبرا " إلى مزارع البرسيم والخضرة على الجانبين .. وشعرت براحة أكثر .. ولاحظت أن معظم الرجال الجالسين معها فى العربة فى سن متقاربة .. ويرتدون البدل الصوفية .. ومعهم حقائب خفيفة وضعوها على الرف .. ولم يكن بالعربة على طولها أكثر من أربع سيدات غيرها هى ..

وكانت غالبية الركاب تدخن .. فضايقها هذا بعض الشىء .. وضايقها أكثر أن الرجل الجالس إلى اليسار فى الصف الذى أمامها .. أخذ يدير رأسه إلى الخلف وينظر إليها .. فتجاهلت نظراته .. وأرخت رأسها على مسند المقعد .. وأغمضت عينيها .. كأنها تستكمل حاجتها من النوم ..

وعندما مر عامل البوفيه طلبت فنجانا من القهوة وشربته فى تمهل .. وأعطته ورقة بعشرة قروش فلم يرجع إليها الباقى .. وخجلت أن تطالبه ..

وجاوز القطار طنطا .. وكفر الزيات .. ودمنهور .. والمنظر على الجانبين لا يتغير .. والمزارع هى هى .. العشب الأخضر .. والبيوت .. والمداخن .. والمساكن الشعبية فى خارج المدن .. وقد أسود بياضها وتشقق وانتشر على شرفاتها الغسيل ..

وبعد أن تحرك القطار من محطة " سيدى جابر " شعرت " عفاف " بالخوف .. خافت ألا تجده .. خافت أن يكون مريضا .. خافت أن يكون قد سافر إلى بلدته لسبب طارىء .. خافت من أشياء كثيرة تحدث فى الحياة .. وتمنع من اللقاء ..

كانت تفضل لو جاء إلى القاهرة الواسعة كالمحيط .. ولكنه كان عنيدا .. ولهذا خضعت لرغباته وسافرت .. وسافرت ..

كانت تسافر إليه فى الشهر مرة .. وأحيانا مرتين كلما واتتها الفرصة .. وسنحت الأحوال فى أثناء غياب زوجها بالخارج ..

وفى محطة " مصر " ارتعدت وهى تسير وحدها على الرصيف .. أحست بأن العيون كلها تلاحقها .. وتحدق فيها .. وتعرف وجهتها ..

وركبت " تاكسى " سريعا .. وعلى باب العمارة نزلت وهى نصف شاردة ..

وكانت العمارة على الكورنيش .. والجو باردا .. والشمس وراء السحاب .. ولم تجد البواب فى المدخل .. وركبت المصعد إلى الدور الثامن ..

وفتحت باب الشقة بمفتاح فى حقيبتها .. ودخلت الشقة الصغيرة .. شقة العازب التى رتبتها له .. واختارت أثاثها .. وزينت جدرانها بالصور .. ولكنها كلما فارقتها وبعدت عنها .. عادت الفوضى إلى الشقة .. إلا أنه فى هذا اليوم الذى يعرف فيه أنها قادمة حاول قدر المستطاع تنظيفها .. وترتيب ما بها من أشياء ..

وعندما دخلت الشقة .. وأغلقت عليها الباب شعرت بالراحة .. شعرت بالأمان .. الخوف الذى انتابها فى الطريق ذهب عنها الآن ..

وكان جو البيت كله يوحى بأن أنفاس " رأفت " حبيبها لا تزال تتردد فيه ..

وفتحت " عفاف " النافذة ونظرت إلى البحر .. وتطلعت إلى السماء .. سحب رمادية كثيفة تحجب الشمس مرة أخرى ..

الجو بارد .. وغير مشمس .. ولكنه جميل ..

وأخذت فى حيوية ونشاط تنظف البيت .. وترتبه على مزاجها .. أنها لم تفعل ذلك فى بيتها فى القاهرة ..

هنا تحس بأن كل خلجات جسمها تتحرك وتدفعها إلى العمل فى بهجة .. وهناك تشعر بالضجر والسآمة والملل والفراغ .. وكل هذه الأشياء قاتلة ومخربة للنفس ..

كانت تشعر بالحاجة إلى هذا الحب .. وكانت تسعى إليه بجسمها وروحها .. كانت تقتل السآمة التى تخرب روحها .. كانت تقتل الفراغ ..

كانت تسافر إليه .. وهى تشعر بالفرحة .. لأنها أسعدته .. وهو فى حاجة إليها ..

وبعد أن نظفت الشقة كلها .. ونسقتها .. أشعلت السخان .. وأخذت حماما .. وأحست بعده بالنشاط والبهجة ..

واستلقت على السرير .. وأحست " برأفت " وهو يفتح الباب الخارجى ويدخل .. وظلت متناومة حتى شعرت بأنفاسه على وجهها .. وشفتيه على شفتيها ..

ظلا معا ما بقى من النهار .. وبعد الغروب ناما .. وفى الليل استيقظت .. وأيقظها الجوع .. وخرجت إلى المطبخ لتعد طعام العشاء ..

أشعلت الموقد وفتحت نافذة المطبخ الوحيدة .. فرأت النافذة المقابلة مفتوحة وهناك شخص يتحرك مثلها فى المطبخ .. كانت هذه النافذة مغلقة كلما جاءت إلى الإسكندرية .. وكانت تجد الباب المقابل لباب " رأفت " دائما مغلقا .. وقال لها " رأفت " فى المرات السابقة أنها شقة أسرة أجرتها لتصيف فيها ولكن منذ سنتين لا يراها تأتى فى صيف ولا شتاء ..

ولكن فى هذه المرة وجدت " عفاف " النافذة المقابلة فى المطبخ مضاءة ومفتوحة .. ورأت شابا يتحرك ثم يطل من النافذة ويحدق فى وجهها .. أنها تعرفه ويعرفها .. وظل ينظر إليها .. وظلت هى واقفة فى مكانها مسمرة .. تنظر إليه فى جمود .. رغم هبوب الريح ..

ظلت واقفة صامتة .. وهى تعرف معنى نظراته الساخرة التى تعريها من قميص نومها ..

كانت الريح تأتى من البحر عاصفة .. وتسمع هياج البحر ودوى الريح .. وكانت تستطيع بإرادتها أن تغلق النافذة ولكنها تركتها مفتوحة .. كانت تستطيع بإرادتها أن تخرس نظراته .. ولكنها وجدت إرادتها مشلولة ..

لأول مرة فى حياتها تشاهد عينين تنظران إليها بوقاحة وقوة .. وهى فى بيت غير بيتها .. وفى فراش غير فراش الزوجية ..

نظرت إلى السماء وهى ترتد عن النافذة فوجدتها ساقطة النجوم حالكة ..

وأعدت المائدة وهى أشبه بالمنومة مغناطيسيا .. كانت تتحرك من غير احساس بكل ما حولها ..

ونهض " رأفت " عن المائدة .. ورفعت ما عليها ..

وجلسا يتحدثان .. ولم يلاحظ شرودها .. وعاد إلى الفراش .. وكان جسمها فى برودة الثلج وروحها ضالة ..

وتناومت حتى استغرق " رأفت " فى النوم .. وظلت " عفاف " وحدها ساهرة تسمع البحر والريح ..


***

تمددت بجواره على السرير وهى تشعر بالخوف .. فارقتها حرارة وجوده بجوارها .. وفارقتها أنفاسه .. وشعرت بالخوف والرعب ..

أحست بأنها باردة جامدة متصلبة .. نهضت فى حذر .. كانت الشقة غارقة فى الظلام فأشعلت نور الحمام لكيلا توقظ " رأفت " وإذا استيقظ يتصورها فى الحمام ..

وتحركت بلين وخفة وهى عارية القدمين بقميص نومها .. وفتحت الباب بحذر بعد أن وضعت فى يدها المفتاح .. وأغلقته وراءها بحذر شديد كذلك ..

وقبل أن تضغط على جرس الباب الآخر كان الشاب قد فتح الباب .. وكان يعرف أنها قادمة ولا بد أن تلبى النداء .. كان خيالها المريض يصور لها أنها ستخرسه وتعمى عينيه .. ولكنها كانت تسقط .. وتسقط ..

واحتواها بذراعه فى صمت .. وأغلق الباب ..

=========================

نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد رقم 4 فى أبريل سنة 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977



.

صورة مفقودة

  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص
أعلى