د. أحمد إبراهيم الباسوسي - المشوار الأخير

كلما هلت صاحبتها مشاعر متدفقة من الراحة والبشر، مثل عاصفة من الحب والبهجة تفوح في المكان، تتوسد كامل كيانها المهيب الفارع الذي الذي يعلوه بشره خمرية جذابة تشكل وجه دائري يستمد جاذبيته من لمعة سواد العينين التي تشع حنانا وجاذبية. لها تأثير المغناطيس الجاذب للخلجات والمشاعر الرقيقة حينما تهل وحينما تجلس وحينما تتحدث. بشاشة وجهها دائما تكون مصحوبة بالأخبار المفرحة لمن حولها، تبلغ هذه انها رأتها في منامها متشحة بثوب الزفاف الأبيض في أحضان عريسها المميز، وتبلغ تلك انه سوف يأتيها رزق كثير من حيث لا تحتسب وتخرج من ضائقتها الصعبة. وأما هذه فسوف تسعد في أيامها التالية ويتقلد زوجها أعظم المناصب. هكذا يتحلق حولها نسوة العائلة لايريدونها أن تغادر، تتسمع باهتمام لشكاويهم ومناماتهم وما يثير قلقهم واضطرابهم. تفيض عليهم بما اوتيت من استشراف الغيب والحكمة ما يجعل من يجالسها في تلك الليلة وقد زال كربه، وحلق في فضاء الغرفة طائرا بجناحين طربا من شدة الارتياح. لكن لاأحد من كل هؤلاء يكترث بالسؤال عن احوالها وابنائها وكيف تعيش؟، كأنهم باتوا على يقين من انها تعيش مرتاحة وهانئة بما تتحصل عليه من دخل معقول من معاش زوجها الراحل، وبما يلمسونه من شدة تعلق ابنائها بها وكأنهم لازالوا اطفالا على الرغم من ان جميعهم تزوجوا وانجبوا اطفالا صغار. كأنها من حيث لاتقصد وضعت ستارة سميكة سوداء تحجب الرؤية تماما عما يجيش داخلها من اوجاع قلبها الذي تعب من شدة هيجان ضغط الدم المرتفع، واهتراء الشرايين والاوردة ونباح الصمامات بسبب الاهتزازات الحادة في دورتها الدموية، ولا أحد يدري انها لاتملك من ترف المال ولا الوقت ما يكفي للراحة واصلاح أو ترميم القلب ووضع حد لالحاح الاطباء الذين تزورهم أحيانا سواء في المستشفيات الحكومية المجانية، أو العيادات الملحقة بالجمعيات الخيرية بضرورة الاستمرار على الدواء الموصوف واجراء قسطرة. تمضي في طريقها مثل بطة عرجاء مصوبة بصرها للأرض دائما خشية الانزلاق أو الاصطدام بحجارة الطريق بعد ان عامت عينيها في المياه البيضاء، أضحى عالمها ضبابي الملامح مثل حياتها الواقعية. في هذا اليوم الغريب ظهرت بطلتها المهيبة في حفل الزفاف، جاءت مع العواصف والأمطار لتضع نفسها في صورة حدث تمنته كثيرا لاحدى قريباتها الى قلبها ووجدانها. كان مساء عظيم امتزج فيه الفرح مع حالة الطقس الشتوي الاسطورية، مع الجمال المنتثر في كافة الأرجاء، والسحر الملمتع بروعة الغموض وروائح الذكريات ونكهتها المنعشة، وقد تراقصت على نغمتها القلوب التي انهكتها السنون بمنتهى العفوية وحب الحياة. بدت مثل فراشة تحلق في سماء القاعة، ثم تهبط على ارضها متهادية بتؤدة وخفة، وقد فاض وجهها الخمري الجميل بابتسامات مرقت في ضلوع جميع الذين حضورا المشهد وتحركت قلوبهم مع فرحتها وابتسامتها ودهشتها. انشغل الناس مع المراسم والتركيز في بقعة الضوء التي يسكنها العروسان وسط هالة خاطفة للوعي والأسماع والوجدان من اصوات الموسيقى التي فرقعت في الصالة فجأة عبر مكبرات الصوت الملحقة بجهاز الدي جي الذي يديره من الخلفية شاب أسمر نحيل الجسد والوجه، عيناه ضيقتان غائرتان يسكنهما غموض مريب، تنبت شعيرات ذقنه القصيرة متفرقة من دون تشذيب محتلة مساحات عشوائية من وجنتيه المعضمتين، وتبدو في غير اتساق مع الموسيقى المنسجمة التي يديرها، وقد التهمت بعنفوانها الطاغي وجدان البشر المتواجدين في القاعة وسرقت حواسهم وعواطفهم. ظهروا كأنهم مرسومين في لوحة تشكيلية مصبوغة بالوان الفرح وحركات العشاق، أصوات الملائكة تصدح في الخلفية توقظ القلوب الميتة، والمشاعر البائسة الحزينة التي اتكأت على النواح والشكوى. ربما كانت تلك اللقطة الانسانية لايمكن ان تكتمل من دون ان تتصدرها بهامتها الفارعة المهيبة وجسدها البدين الذي تحول بقدرة قادر الى هيكل رشيق يهتز بعفوية لافتة مع موسيقى الدي جيه الصاخبة، ويتفاعل بمنتهى الحرفية مع ايقاعاتها من حيث البطء أو السرعة. كانت تدور في حلقة الرقص حول العروسين مثل فراشة منجذبة نحو وهج الضوء، مندفعة نحو قدرها المرسوم لها بدقة، لكن جاذبيتها لوهج الضوء في خضم اشتعال الموسيقى كانت مشحونة بطاقة هائلة من الرضاء والتصالح والفرحة المواكبة للمشهد العظيم. اتسع نطاق حركات اهتزازات جسدها واشارات ذراعيها في الهواء وهما يعكسان نزقا لافتا استدعى انتباه فتى الدي جي الذي رآها لوحة يجب ان تكتمل، تلاقت عيونهما مرات كثيرة ورسائل كثيرة أيضا تم تبادلها بينهما عبر هذا الفضاء الصاخب بالأضواء والبشر والفرح والانتشاء والغموض. أشعل الفتى القاعة بالأصوات والأضواء والمرح والرقص لا يلوي على شيء، امتزجت عينيه بعينيها في تلك اللحظة المفترقية من ولوجها في حالة انشقاق أو تحول كامل لذاتها التي اعتادها الناس بينهم. طفقت ترقص وتتمايل وتتحدث بعبارات وأصوات غريبة عن طبيعتها تماما، لم تدرك ان الآخرين جميعا من حولها توقفوا عن الرقص وتحلقوا حولها يتابعون تلك الاهتزازات الغريبة، والشاب صاحب الدي جي يصر على استمرار العرض على الرغم من طلب الجميع منه ان يتوقف، لكن عيونه زاغت بعيدا، تجاوزت السيدة التي ترقص وتتمايل وتهذي، الى سقف القاعة والأضواء التي تنزل من السماء. كأنها لحظة عجز انساني خارج عن الارادة والتحكم، استمرت الموسيقى واستمر دورانها بمنتهى الخفة والرشاقة، اصواتها الغريبة تلازمها، اندفع شابين في غضب نحو الفتى وآلته الموسيقة ودفعوه عنها بعد ان صفعوه بقوة، اوقفوا الآلة، هدأ كل شيء. اظلمت القاعة فجأة لمدة دقائق، ساد ارتباك عظيم، هرع موظفوا أمن القاعة وبعض الشباب الذين اناروها بهواتفهم المحمولة. عاد الضوء للقاعة، عاد كل شيء الى حالة، لكنها لم تعود. اختفت تماما من المكان، بحثوا عنها في كل الأماكن، سألوا عنها الجميع، لاأحد يعلم، خمنوا ربما عادت الى منزلها بمفردها، لكن ذلك لم يكن صحيحا، لم تظهر في بيتها أو أي مكان آخر حتى الآن.​

فبراير 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى