أشرف الخضري - الأثر..

لا شيء فى هذا الليل إلا نقيق الضفادع والصرير. وقفت أمام الشباك الأرضي وناديته باسمه .. يا راجح .. راجح..
فتح ولمعت عيناه الواسعتان من وراء حديد الشباك وقال : من أنت ؟
قلت : غانم المعداوي صديقك القديم !
أغلق الشباك وفتح باب الشارع وأدخلني . كان الفحم متوهجا في المبخرة الفخار ، ولمبة الجاز على الحائط، جلس على أريكة عليها مرتبة قذرة ، وأجلسني أمامه وبيننا ترابيزة عليها صينية ألومنيوم كبيرة ، وشمعدان بثلاث شمعات مضاءة، وبخور وبرطمانات وكتاب، قبض حفنة بخور وأسقطها فوق الجمر فارتفع الدخان العطر وهو ينفخ فيه بأنفاس طويلة، قلت له :
مختار مربوط ؟
قال: لم أرك منذ سنين يا غانم ستعطيني جنيهين !
ضربت كفا بكف ثم قلت باستياء: جنيهان مبلغ كبير،نحن صديقان قديمان يا راجح.
قال: سأعطيك كوب ماء مملوء وعليك أن تسقيه كله لمختار إذا استطعت الوصول به سالما إلى البيت !
قلت مستغربا: ومن سيمنعنى؟
نفخ في الجمر و قال: الخدام !
ضحكت وقلت له: تخاريف...
قاطعني: لماذا أتيت إلى إذن ؟
قلت : تعبنا ولم يعد أمامنا إلا أنت.
وقف غاضبا واتجه إلى غرفة تصدر منها رائحة كريهة مألوفة، دفع الباب فتدافعت الدجاجات أمامه وصرخت ، مكث دقيقة و أحضر شيئا، وأغلق الباب وجلس حيث كان، رفعها أمام عيني وقال : ما هذه ؟
قلت : بيضة.
أمسك ملعقة وثقب بيدها البيضة في النقطة المدببة برفق وبراعة وفتح ثقبا دائريا صغيرا، وقال لي : انظر
نظرت في الثقب وقلت : صفار وبياض.
قال : انظر جيدا.
قلت : صفار وبياض .
وضع البيضة في فنجان مهشم الأذن، ورفع جلبابه، تعرى وانكشف، قلت له : ماذا تفعل يا ابن الشيطان ؟
لم يعرني أي اهتمام، وبجرأة ووقاحة بدأ طقوس العادة وبصق في يده مرات، عندما اقترب الماء الدافق من ملاقاة الهواء شهق وتأوه، أمسك الفنجان وأنزل قطرة ماء حياة تنز ببطء في ثقب البيضة، أرجع ظهره وأرخى جلبابه وقرأ كلمات غير مفهومة، اقشعر لها جسدي، مد يده بالبيضة وقال: انظر الآن.
ترددت لكنني تشجعت و نظرت، شهقت شهقة عالية وانقلبت على ظهري مطروقا على الأرض، سمعت آهتي وغابت الحواس.
أفقت على بصلة كبيرة وضعها أمام أنفي، أبعدت وجهي عنها وأنا أعطس، صب قليلا من ماء الزير البارد في كفي وغسلت وجهي وجلست، قال : ماذا رأيت ؟
قلت : رأيت قطا أسود.
عيناه واسعتان حمراون كالدم ، صرخ في وجهي وظهرت أنيابه، وأذناه طويلتان كقرون الماعز، ومد يده وكاد يخدش عيني وانخلع قلبي فزعا لما نظر القط لي.
ابتسم راجح بغرور و قال : أين الأثر ؟
فأخرجت من جيبي فانلة قطن بيضاء فيها عرق ورائحة مختار، قال : هل معك مطواة؟
أعطيته "قرن الغزال"، اقتطع جزء من الفانلة على شكل صحيفة، وضع قلمه المصنوع من الغاب في حبر خفيف وردي وبدأ الكتابة، ولما انتهى ملأ كوبا من الألومينيوم بالماء وأغطس فيه القماشة، وترك الكتابة تتحلل في الماء، وضع الكوب أمام شفتيه وتنفس فيه بكلمات غير مفهومة، لم تلتقط أذناي منها غير ( العجل العجل ..الساعة الساعة ) أعطاني الكوب وقال : عليك أن تصل به سالما، أعرف أنك تستطيع.
استفسرت عن الحبر الذي ذوبه في الكوب قال : لا تخف. ماء و مسك وزعفران، وشدد يجب أن يلتهب الفأس حتى الاحمرار و تكون الكتابة حول السرة.
العتمة لم تكن مطبقة، كان القمر في السابع، أنتقل من جسر إلى جسر، شعرت بحرارة تسري في جسدي وعرق غزير، كنت أضع يدا تحت ويدا فوق، رغم الحرص كان الماء يندلق وكأن أيادي خفية تحاول انتزاعه مني، لم أكن أحفظ إلا الفاتحة أقرأها بصعوبة بالغة، أنتقل من غيط إلى غيط وأسرع الخطى للوصول بالكوب ممتلأ، ابن الشيطان أخذ جنيهين، مبلغ يكفي البيت شهرا، لعنة الله عليه.
التوت قدمي فجأة وأوشكت أن أتهاوى، ألقيت بظهري إلى نخلة واستندت عليها واستعدت توازني والكوب بين يدي، مكثت للحظات حتى هدأت أنفاسي وأكملت السير وأنا مندهش لم أتعثر في شيء.
كنت أفكر من الذي سيكتب الآية حول سرة مختار، تسعة رجال لا نعرف الكتابة.. مأساة.
عبرت المصرف على فلق النخل، وأنا في المنتصف رأيت على الضفة المقابلة قطا أسود كالليل، عيناه تلمعان كقمرين مثبتين في المحاجر، الكوب الألومنيوم بين كفي، قدماي متسمرتان على فلق النخل، وهذا القط يقف حائلا بيني وبين باب البيت ، كلما جاءت عيناه في عيني يقشعر بدني وأرتجف، أردت أن أتقدم وأرفسه بقدمي لكني تسمرت، نظرت إلى نصف القمر في صفحة الماء وإلى القط الذي حولتني عيناه إلى حجر حي ، ودون أي شعور بالخزي صرخت كالحريم ، لم أكن خائفا إلا على الكوب، خرج الجميع ، رأوني متسمرا على فلق النخل في النور الخافت. أسرعوا نحوي، قلت لماهر : ..القط.. أبعد القط، نظروا جميعا حولهم وقالوا لا توجد قطط ! قلت ساعدني لأعبر، عندما لمسني تحررت قدماي، ونحن نتجه إلى بيتنا التفت خلفي،كان القط جالسا لم يتزحزح من مكانه خطوة واحدة.
دخلنا بسلام، ودخل الجيران بيوتهم ينهشهم الفضول. عندما أصبحنا في صالة البيت سمعت صوتا بداخلي يحدثني، ( الكوب فارغ ) كان الجميع يحاولون الاطمئنان علي، اتجهت صوب الحمام وأغلقت الباب والشباك ولسان لمبة الجاز المشتعل لا يهتز، قلت :مستحيل، هذا لا يمكن ! كنت أطبق بكفي على الكوب مكفيا على فمه وليس فيه قطرة ماء !
جلست على كرسي الحمام الخشب مذهولا ويائسا لا أصدق ما حدث ولا أعرف ماذا أفعل، لمع خاطر في ذهني قمت وملأت الكوب ماء من الحنفية، وخرجت وأنا أقرأ الفاتحة في سري عدة مرات وأنا أقلد ابن الشيطان ( الساعة الساعة ! ) ناديت مختار وقلت له: اشرب بسم الله ،
رفع الكوب إلى فمه قلت: بالشفاء إن شاء الله، وصرخت أوقدوا الفرن، أريد نارا شديدة.
جلست أستريح ثم أخذت فأسا ووضعته في النار، سألت الجميع أريد أحدا يستطيع الكتابة ، قال ماهر : أسماء ابنتي تدرس في كتاب الشيخ محسن وتكتب الفاتحة وسورا كثيرة، أيقظتها أمها بصعوبة وحدثت مشادة بين زوجة أخي وبينه وأقنعها ماهر أنها لن تفعل شيئا خطيرا واستسلمت لإصرار زوجها وتركت البنت، قبلت أسماء وضممتها في صدري ، انحنيت عليها وقلت : هل يمكنك قراءة الكلام في هذه الورقة ؟
أمسكتها أسماء وجلست واعتدلت كأنها ستقوم بتسميع سورة أمام الشيخ ، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، ( ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ) قلت لها : أريدك أن تكتبي لي ما في هذه الورقة، سألت أكتبها أين ؟
قلت لمختار : نم واكشف بطنك ؟
قلت لها : هنا وصنعت دائرة بأصبعي حول السرة ، وضعت العسل الأسود أمامها وقلت : القلم أصبعك والحبر عسل.
جلست أسماء في خجلها الشديد وأغمست أصبعها في العسل وكلما حاولت لمس بطن عمها ارتعشت وأبعدت يدها، نظرت لأبيها وقالت : ( بابا مش قادرة أكتب أنا خايفة )، حاولت أنا وأخي ماهر دفع أسماء لكتابة الآية ولكن لم نستطع ، قلت: لا بأس وطلبت من أسماء أن تقف عند رأس أخي مختار وتتلو الآية عليه سبع مرات ، أخذت تقرأ حتى أتمت القراءة ، قبلتها واحتضنتها لذكائها وبراعتها وأعطيتها بريزة كاملة! وأنا أتنهد العلم نور.
أخرجت الفأس من النار وهو جمرة حمراء وأمرت مختار أن يتبول عليه.
عندما دوت الزغاريد والفرحة تمت وانفك المربوط وبطل السحر ، كنت معمورا بالأوجاع والضحكات ،وأنا أقول لنفسي: من الحنفية !
دخلت سريري لأنام بعد ليلة لن أنساها وأنا أضحك بشراهة: من الحنفية : جنيهان! وعندما أغمضت عيني واسترخيت لمع في ذهني خاطر لحوح وسؤال عجيب من الذي ربط مختار عن عروسه؟!


مجموعة في ثقب بيضة
دار الإسلام للطباعة والنشر 2018




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى