جعفر الديري - مجاز.. قصة قصيرة

عندما سخروا منه، لم يكونو يُشاهدون شابّا في الرابعة والعشرين من عمره. بل طفلا في الخامسة، يدفعه عمّهم لأبيهم، خجِلا ينِزّ عرقا.

صورة علقت بأذهانهم، وثبّتها أكثر، أبوهم الذي هزّ رأسه ضيقا بأفعال الشقيق السفيه، وأمّهم وقد بدت غاضبة أشدّ الغضب.

أبوهم وأمهم الذين لم يتحرّجا من خروج شكواهم من باب الغرف، لتصل إليهم، فتجلّي لهم، حقيقة بن عمهم، الذي تركه أبوه عبئا على رب أسرة بالكاد يقوى على تأمين لقمة عيشها، وهرب مع امرأة آسيوية تزوّجها سرا!.

وإذا كانوا قد عجزوا بالأمس عن التصريح بمشاعرهم. فإنّ الفرصة قد سنحت اليوم، لينزعوا وجوه الأقنعة عنهم. ويوحّدوا مشاعرهم على إهانة هذا المتغطرس ناكر الجميل؛ الذي يقف مواجها أبيهم، ليعلن له أنّه اختار من سيتزوّجها، معتذرا عن الاقتران بإحدى بنات عمّه!.

وما أن سمعوا والدهم يقول غاضبا:

- من شابه أباه فما ظلم!.

حتّى ضجّوا مؤيّدين. فأبوهم هذا كان مواظبا على تحقيرهم. لا يترك مناسبة تمرّ دون أن يذكّرهم باجتهاد بن أخيه.

وقال أكبرهم ساخرا، منفّسا عن حقد كظيم:

- ومن أين ستنفق على زوجك؟!

- لقد توظّفت ولله الحمد.

وتبادلوا نظرات سريعة فيما بينهم، ثم ضحكوا...

- وأين إن شاء الله؟! حتّى خمّام بإحدى الشركات كثير عليك.

لكنّ الشاب، ابتسم وقال في ثقة:

- بل أخصائي في إحدى الوزارات الخدمية.

عندها صاحوا جميعا، بمن فيهم الوالدان:

- ماذا؟!

وتأجّجت مشاعر هي مزيج من الدهشة والشكّ، والغيرة والحسد.

وقال أبوهم ورماد السيجارة متمسّك بعقبها:

- هل أنت جاد بني؟!

وأجاب بهدوء من رسم خطة طويلة وشارف على نهايتها:

- نعم. وسأعمل مساء في وظيفة بارت تايم بإحدى المؤسسات الكبيرة.

ووجموا. وتلاشت أمام أعينهم صورة الطفل الصغير، وحلّ محلّها واقع ثابت الأركان. فالطفل المسكين المستكين، أضحى رجلا ملأ العين. أكمل تعليمه رغم قسوتهم، وحاز وظيفة لم تبلغها أحلامهم حتى.

تلك مشاعر لم تفارق أذهانهم بعد ذلك. فابن عمّهم الذي أبهرهم ليلتها، كان يُحضّر لمفاجأة أكبر. وبعد أن استأذن من عمّه لدقائق، رجع يمسك بحقيبة ملابسه.

ووجدوه يتقدم إلى أبيهم، ويطبع قبلة على جبينة:

- جزاك الله خيرا يا عمي، لقد كفّيت ووفيت.

وكأنّما عصرت قلب عمّه يد قوية، أخرجت عاطفة أبويّة، أشعرته بثقل الكلمات التي جرح بها بن أخيه:

- هل ضايقك قولي يا بني؟! أنت بن أخي ومقامك من مقام أبنائي.

وتمنوا أن تخرج من فمه كلمة غير مهذّبة. لكنه قال في ودّ واحترام ظاهرين:

- أنت بمثابة أبي. لو ضربتني بالسياط ما اعترضت.

- فماذا يحملك على المغادرة إذن؟

- لقد استأجرت شقة بإحدى العمارات القريبة، وتشرّفني زيارتكم.

ومن خلال باب الصالة المفتوح. راقبوه يعبر المجاز المضاء. فلا يلبث أن يختفي وراء باب البيت. ومن خلال استغراق أبيهم في الصمت، توقّعوا أن لا تمر الليلة دون تعنيفه وسلقهم واحدا إثر الآخر. هم الذين "لم يفلح أحد منهم. ولم يرفع رأسه بين الناس".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى