خالد جهاد - مسرح الكابوكي.. ثقافة أبعد من الوجوه

الهوية الثقافية هي الأساس الذي تبنى عليه حضارات الشعوب، فنلمحها في ملبسها وعاداتها وتقاليدها ونمط معيشتها ومعتقداتها التي تنثر عطرها على مختلف جوانب حياتها لتعطيها الشكل الذي يميزها بين الأمم عبر التاريخ، ولا شك أن الآداب والفنون هي أهم وسائل حفظ هذا الإرث جيلاً بعد جيل خاصةً عند تقديمه بشكلٍ متقن يحفظ له قيمته ورونقه ويقدمه بكامل طقوسه بأسلوبٍ يحمل التقدير والإحترام والإمتنان لما تركه الأجداد، وفي بلدٍ مثل اليابان يلقى التراث احتفاءاً كبيراً فنراه حاضراً في الكثير من الأنشطة الثقافية بشكلٍ ثابت ومنها المسرح الياباني، والذي يحمل طابعاً مميزاً ومزيجاً فريداً من الرقص والدراما والموسيقى والألوان مما جعل منظمة (اليونسكو) تدرجه على لائحتها كتراث ثقافي غير مادي، ومن أشهر أنواعه (مسرح الكابوكي) الذي يزيد عمره عن ٤٠٠ عام..

ويعود بتاريخه إلى آخر فترة من فترات تاريخ اليابان القديم وتسمى بفترة ايدو (١٦٠٣-١٨٦٨)، والتي مهدت بدورها لظهور فترة مييجي وتعني (الحكومة المستنيرة) والتي تشير إلى بداية تغير النظام في البلاد، كما أنها بداية تاريخ اليابان الحديث والذي توزع على مراحل، فكانت هذه الفترة في الأعوام ما بين (١٨٦٨-١٩١٢)، وقدم هذا المسرح شكلاً جديداً حيث أنه يختلف عن (مسرح النو العريق) والذي كان كل ممثليه من الرجال كما كان محصوراً في طبقةٍ معينة بين رجال البلاط والنبلاء..

فبدأ هذا المسرح من مدينة (كيوتو) مع إحدى الكاهنات البوذيات واسمها (ازومو نو أوكوني) عام ١٦٠٣، والتي كانت تقدمه على مجرى النهر الجاف في (شيجوغاوارا) ثم استمرت فيه عبر التنقل بين بعض المناطق اليابانية لتقدم عروضها الخاصة، والتي تمزج بين الفكاهة والجرأة الغير معهودة مقارنةً بذلك الوقت، والتي كانت تجد إقبالاً وتستقطب فئاتٍ مختلفة يغلب عليها المومسات، فخلقت حالةً من الجدل بسبب التناقض بين ما تقدمه من مضمونٍ يروج في الكثير من الأحيان للبغاء فيما كانت ترسل ريع هذه العروض لخدمات العناية بأحد الأضرحة عدا عن أن بعض رقصاتها كانت تحمل طقوساً بوذية، وهو ما تسبب في بلبلةٍ داخل المجتمع المحافظ لتقليد الكثير من النساء لها، والذي أدى إلى موجةٍ من الإعتراض أدت لاحقاً إلى اعتزالها واختفائها بعد أن أسست فرقةً من الإناث تؤدي أدواراً رجالية ونسائية عكس فكرة مسرح النو، وهو ما لم يستمر طويلاً ليتحول إلى نفس الأسلوب حيث يؤدي الرجال جميع الأدوار بعد حظر تمثيل النساء عام ١٦٢٩ والذي استمر حتى يومنا هذا، ويسمى الرجال المتخصصون في تأدية الأدوار النسائية بالأوناغاتا حسب اللغة المحلية، وبعد فترةٍ كانت تقدم الفرق المسرحية منقسمة بين فرقٍ ذكورية وأنثوية، وأيضاً بعد أن تطور الكابوكي ليأخذ منحىً أكثر درامية ويجسد شخصياتٍ كرجال الدين المسيحيين ومحاربي الساموراي.. فكانت بشكلٍ أو بآخر هي من وضع اللبنة الأولى في أساس مسرح الكابوكي رغم سلوكها الأخلاقي المنبوذ حتى من مجتمعها الأم، كما أنها أنشأت ما يعرف بمفهوم (هاناميتشي) ويعرف بطريق الزهور وهو ممرٌ متصل بخشبة المسرح ويسمح للممثلين بالمرور من الخلف بين الجمهور حتى يصلوا إليها وهو ما انتشر لاحقاً في أنواع ٍ أخرى من المسرح الياباني..

ويمتاز الكابوكي بعدة خصائص تميزه عن غيره إلى جانب (طريق الزهور) بخشبته التي يمكنها أن تلف حول نفسها، كما أنه مزودٌ بأبوابٍ خفية تسمح للممثلين بالإختفاء من خلالها ومن ثم الظهور مجدداً، كما يتضمن لحظاتٍ عديدة يقف فيها الممثل ساكناً دون حراك، كما نلحظ فارقاً مهماً يميزه عن مسرح النو الذي يقوم على استخدام الأقنعة وتبديلها ألا وهو استخدام صبغ الوجوه وتجميلها بإستخدام الألوان وبعض الأشكال، والتي يستطيع المتفرجون من خلالها التعرف على طبيعة الشخصية التي يؤديها الممثل وفي العادة تتناول عروض الكابوكي الأحداث التاريخية والعلاقات العاطفية والصراعات الأخلاقية التي تتخللها بحيث يكون أحد رجال الساموراي محوراً للأحداث التي تتوزع عادةً بين ثلاثة مواضيع هي..

١- عروض تتناول الحياة اليومية..
٢- العروض الغنائية..
٣- العروض التاريخية..

واستمر العصر الذهبي لمسرح الكابوكي قرابة ١٦٣ عاماً بدءاً من عام ١٦٧٣ خاصةً بعد أن بدأت سماته في الوضوح وشخصياته في الإستقرار وتثبتت فيه بعض الأركان بعد انحسار غيرها، كرقصة البويو الشعبية التي كان دورها مهماً ثم تراجع مع تطور الكابوكي، كما تحددت خصائصه التي تميزه عن غيره سواءاً كان ذلك في الأداء الذي يتم التحدث فيه بطريقةٍ رتيبة تصاحبها الآلات الموسيقية، أو الأزياء التي تتسم بالإبهار، ونلحظ عبر مسيرة هذا المسرح تطوره ونضوجه حيث بدأ بشكلٍ أقرب إلى البغاء مستقطباً فئاتٍ بعينها سواءاً كان على صعيد الجمهور أو الممثلات، مروراً بمراحل الثورة الشعبية عليه من الناحية الأخلاقية ومنع ممثلاته إلى أن تم تشذيبه وكتابة الموضوعات له بشكلٍ جدي منذ عام ١٦٨٠، حتى أصبح فناً معترفاً به من قبل الجميع فشهد عام ١٨٨٧ حضور امبراطور ميجي له بعد أن أخذ شكلاً راقياً ورصيناً يختلف عن بداياته، وأصبح اليوم يقدم على خشبة المسرح الوطني في اليابان كجزءٍ من التراث الشعبي والثقافة اليابانية وأحد معالمها التي يسعى السواح إلى مشاهدة عروضها التي تتمتع بخصوصية ٍ تميزها عن بقية مسارح العالم، حيث تسحر العين وتحفز المخيلة للبحث في ما هو أبعد من الوجوه والألوان..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى