أميمة عزالدين - ليلة الوداع الأخيرة

ما زلت أذكر تلك الليلة التي اغتالتها شواهد مدينتي العجفاء،فستاني الأبيض القديم المصفر يغبش ويناوش ليلى الأسود ويمنيني بليلة عرس إغريقية ،حتما لن أراها معه أبدا .
كان شيئا رهيبا أن ألتقي به مرة أخرى بعد إن اتفقنا على الفراق.في اللحظات الأخيرة للوداع بكى ولم أستطع البكاء مثله.مازلت أذكر تلك الليلة، أجل ،لم تستطع مرافىء الدهشة والاغتراب ومرارة اليتم والركض لأعلى بعيدا عن تلصص الموتورين وهمس الطيبين!!! أن تنسيني ليلتي هذه.
القلق والتوتر سمات حياتي لا أستطيع أن أنجو بعيدا عنهما فلقد تغلغل القلق دقائق تفاصيل حياتي بعد أن خمشت قلبي الأحزان وطاردتني الأحلام السريالية وصرت كمن يلهو بطوق النجاة وهو يغرق...يغرق دون أن يدرك.
قابلني بشموخ وكبرياء مصطنع وأنا ابحث عن عمل ،أطوف المدينة كلها بحثا عن عمل:اى عمل يسد رمقي ولا يجعلني أبيع جسدي على ناصية الطرقات.
السفر خارج مدينتي كان هاجسي وكنت أرى أن الرحيل دون رؤيته سعادة غير مكتملة لكنها في الوقت ذاته حزنا غير ناقص .
تصاعدت أسئلة الاتهام بيننا في تلك الليلة..أخذني بين ذراعيه و أجلسني على أحد المقاعد الرخامية بالحديقة العامة ونظر إلى يدي اليمنى ،أومأ فى صمت وأخرج زهرة بيضاء أودعها يدي اليمنى وسار بضع خطوات وقفل راجعا ثم جلس في هدوء ورزينة .
-الآن يمكنك الرحيل
لم أشأ أن أباغته بدموعي وظللت صامتة أرنو لزهرته البيضاء التي فتتها بين أصابعي،وإلى حذائه.
-المناخ اليوم ليس ملائما لفعل لأى شيء.
-كفانا إلى هذا الحد.
مازلت أرنو إليه وقد استدار ورمق فتاة ترتدي ايشاربا اسود ا للون مع فستان قصير تحت الركبة قليلا ...أمعن فيها وابتسمت له الفتاة على استحياء.
-آه يا ليلى من تلك الفتاة !!
-أية فتاة؟!
-تلك التي مرقت كالبرق بجوارنا،كانت تتناول الغداء في نفس المطعم،كانت تأكل بيد وبالأخرى تخفى الطعام بين طيات ملابسها .كانت مثيرة وتلقائية، رمقتني بنظرات غامضة ترجوني عدم الإفصاح.
-معقول؟! لابد أنها جوعي أو ربما تجلب هذا الطعام لأهلها الفقراء .
-ربما..هذا لايعنينى البتة ،الذي شدني إليها هو مسحة الجمال والبراءة الذى توارت خلفهما وتسرق الطعام كأنها قطة مستوحشة تمثل الوداعة في إتقان شديد .
- ...........................
كانت الحديقة متلألئة بأضواء خافتة بنفسجية ،عندما تحط على وجهه يتلاشى الشعور بالذنب تجاهه،كان يمتقع لونه فجأة ويهمهم.سألته ما به لم يجب ثم أردف بعد صمت طويل.
-إنها إحدى النوبات التي تفاجئني في ألاماكن الخافتة الضوء
كانت أسنانه البيضاء تنهش كل جميلة تسير بحذائه فلقد كان الممر لا يسع إلا لاثنين أو ثلاثة بالكاد.
كانت زهور البانسيه و القرنفل و الياسمين تملأ الحديقه العامة التى تطل على كافتيريا و مطعم سياحى كبير.كانت الوجبة فيه تكلفني راتب الشهر كله.
سألني باستخفاف عن سبب وجودي في هذه المدينة بالذات فقلت:
- جئت لأبحث عن عمل,أي عمل والسلام.
- تبحثين عن عمل !أين أهلك؟
-لا أعرف.
أأنت يتيمة يا ليلى؟
كنت أعرفه منذ سنة تقريبا و لم نكن نلتقي إلا قليلا.لا يحب أن يسألني عن شئ؛فقط كلامنا يفضى إلى الأخر بوجيعته حتى أنه حكى لى يوما عن الزار الذى تقيمه أمه ليلة الجمعة.
كان يرتجف و هو يذكر أن المرأة شديدة السواد ذبحت ديكه الأحمر كما تنثر أوراق الورد في زهو وخيلاء ,أما أمه فكانت تأتى بالحركات الغريبة ما يجعلها تنام فاقدة الوعي طيلة الليل وأن أبيه كان يخرج لاعنا اليوم الذي تزوج فيه تلك المرأة المسحورة.
عندما سألته عن “يوم الزار” ضحك.
-مازالت أمى تفعله
رأيت علامات الرجفة تزحف ببطء إلى يديه وعينيه.كأن النوم يرتقها على مهل حتى أن قسمات وجهه تغيرت و تبدلت قليلا ثم هز رأسه هزات ثم صرخ:
-لا أريد أن تحدثيني عن هذه الأشياء اللعينة إنها لا تطاق
-آسفة!
-لا تعتذري.فقط أريد أن أقول لك أن أمي هذه سيدة مسحورة..حلمت ليلة أنها تغسلني بدم فتاة وتلفني بثوبها كي تنقذ حياتي المطمورة بين ثنايا خبلها وجناياتها الساكنة شرايين جسدها الضامر.
كنا قد اتفقنا على الفراق،و عندما حانت ساعة الفراق جذبني من يدي ببطء يريد شيئا وقال في تخابث:
-الليلة...سأجعلها ليلة وداعنا العظيم. فنهرته؛ ضحك ساخرا وأشار أن أسير حذاءه.
سرنا في الممر الطويل للحديقة.كانت خالية إلا من سوانا.الجو أكثر من رائع واختمرت لديه فكرة ذهابي لبيته قال:لا أستطيع الفراق بعد الآن أدركت ألان سر اللعبة فلأستريح من عناء الفراق وأخذك معي للأبد.
أثناء سيرنا كان يمتقع لونه فجأة و يهمهم.سألته ما به فأومأ :
- إنها إحدى النوبات التي تباغتني في ألاماكن خافتة الضوء.هيا بنا نخرج من هنا و إلا فقدت وعيي.
-هل مازالت أمك تأتى الزار؟ -أجل وأريدك اليوم أن تشاهديها هي و جوقتها الملتفة حولها
-لا أريد أن أرى شيئا أريد الرحيل عن هذه المدينة فلم استطع العثور فيها على عمل .
-لن ترحلي إلا معي.
كان البيت أشبه بالقصر المهجور. ساقني إلى مدخل ضيق تقبع عند طرفه أشجارعتيقة ذات أجمة كثيفة عند البوابة الرئيسية للقصر
ما زلت أسير في طريقه المتعرج حتى وصلنا إلي باب صغير يفضي إلي صالة فسيحة تغمرها الأضواء الحمراء وبعض النساء اللواتي يرتدين جلابيب ممزقة وحلي نحاسية وأقراط طويلة تتدلي لصدورهن وشعرهن
منكوش، في الوسط تقبع امرأة جاوزت الستين تقريبا، تندب وتلطم خديها وتدور في الوسط بينهن كالمجنونة أشار إلي. وقد بلع ريقه وصعوبة.
-هذه أمي كما ترين مسحورة إنها لن تستريح حتي تريق دم فتاة وتزينني به.
-إنها جريمة
- لكنها مسحورة يا ليلي
وجدته يمسك بذراعي بقوة ويدفعني للدخول إلي الصالة وينظر إلي بشراسة، تلفت لأجده شخصا أخر غير ذلك الشخص الذي قابلته منذ عام .. لقد تحول إلي ذئب عينيه حمراوا تين يضطرب ويموج ويثأثئ كثيرا .
- الليلة هي......
هم بقذفي إلي معتركهن.. تملصت بلطف.
- يجب الرحيل الآن ..دعني من فضلك
- .....
وجدت أشباح النسوة تتداعي علي الحوائط والعوارض الخشبية المحاطة بالثريات المدلاة بعناية من السقف.... تقترب مني . امسك بكتفي وقبض علي شعر رأسي..... هم بدفعي إلي الأشباح التي تدنو شيئا فشيئا.. صرخت وظللت أصرخ . إلا أنه لوي ذراعي وراء ظهري وهوي بيده الأخرى علي فمي ودفعني إليهن بتحد جرؤت علي عضه بشده حتى صرخ وهربت منه وظللت أجري طويلا دون أن أدري أن هناك دما ينزف من رقبتي وبقايا لحم مغروس بأسناني وصدي عواء يرن في أذني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى