إيمان السيد - لعبة الغُميضة

كثيرًا ما أحببتُ لعبة الغُميضة، خاصةً عندما كنت أمارسها في بيتنا الكبير، مع إخوتي الذين كانوا يعرفون مخابئ حقيقيةٍ كنت أجهلها تمامًا، وكانت هذه المخابئ تتجدَّد في كلِّ مرةٍ، وتتغيَّر دون أن تنتهي، ودون حتى أن أتمكَّنَ من الإلمام بها.

كنت أقف ووجهي إلى الحائط بعد أن أكون قد أسندته إلى ساعدي الأيمن مغمضة العينَين وأنا أعدُّ من الواحد إلى عشرة، فيتراكض أخوتي كلًا منهم في اتجاهٍ للاختباء في مكامنهم قبل أنْ أنهيَ العدَّ إلى عشرة، كنت أنتشي بسعادتهم التي أراها تلتمع في عيونهم لفشلي في القبض عليهم في كلِّ مرةٍ أثناء المدة الزمنية المحدَّدة للإمساك بهم، وبعد إعلاني عن إخفاقي في إيجادهم؛ يتقافزون من مكامنهم بسعادةٍ معلنين انتصارهم عليّ بينما أدبدب بقدَمي على الأرض تعبيرًا عن غضبي بسبب فشلي في كشف مخابئهم.

غالبًا ما كنا نمارس هذه اللعبة في عصر كل يومٍ ، وأثناء قيلولة أبي- بعد عودته من العمل، وتناوله وجبة الغداء- بأصوات هامسةٍ كي لا نزعجه، ونعكِّر صفو نومه.

كبرنا....
وكبرت معنا لعبة الغُميضة؛ لتتحوَّلَ إلى حرب عصاباتٍ في الشوارع، صار الأخ فيها يجهدُ في كشف مخبأ أخيه ليقتله، أو يبلِّغ عنه ،لاعتقاله، أضعف الإيمان.

كبرنا...
ولم أخبر أخوتي قط أننا -عندما كنا صغارًا- كنت أعرف مخبأ كل واحدٍ فيهم، وأتجاهله، بل أدَّعي جهلي به فقط لأرى تلك السعادة في عيونهم لفشلي في القبض عليهم، ولأسمعَ صوت ضحكاتهم المكبوتة كي لا يصحو على ضجيجها أبي الذي كان يزعم أنه نائمٌ هو الآخر.

كبرنا....
وتمّ تهجيرنا قسريًا من وطننا لأنّ هناك من استمرأ لعبة الغُميضة!

كبرنا....
ومات أبي، وقصد كل واحدٍ فينا منافي هذا العالم اللعين لأدرك بعد عمر طويلٍ، وبراءة حقيقيةٍ:
أنني لم أكن أحبُّ لعبة الُغميضة -كما كنتُ أظنُّ- بل كنتُ عمياء.

إيمان فجر السيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى