عواطف أحمد البتانوني - بَطلة اسْمُها زَيْنَب.. قصة قصيرة

وصلَ (شحتة) القَناوي تلغرافٌ من بلدَته بمحافظة " قنا".. فتحَه الرجل وتأمَّله مضطربا. لمْ يكنْ يعرف القراءةَ والكتابة، فطرق البابَ على الأستاذ محمد عبد الظاهر الساكن بالدور الأول واستأذنة أن يقرأ عليه التلغراف.
قرأ الرجل: " والدك مريض جدا احضر حالاً" / ابن عمك عامر
ثُم عقب قائلا: إنْ شاء اللهُ خير.. سافرْ شوفْ والدك يا أحمد.
قال شحتة فى حيرة: يابيه لمن أترك مسؤولية حراسة العمارة ؟
قال الأستاذ محمد: البركةُ فى زينب. توكل على الله وأنا سأخبر مجلسَ العمارة, جلسَ
" شحتة " وسطَ أولاده وقد أُسْقطَ فى يدهِ وركبَه همٌّ ثقيل. أحسَّ الأولادُ أنَّ هناكَ خطباً ما فالتصقوا بوالدهِم صامتين.. وجلسَ يُسْري أصغرُ الأولاد في حجره..
قالتْ زوجتُه زينب: "بلاش السَّفرية دي يا خويا. نحن ما لنا أحد غيرك يا شحته. أنتَ عمرك ما رحت تلك البلاد البعيدة من يوم زواجنا. كان يجلس القرفصاء وقد وضع رأسه بين كفيه صامتا.
انتفض فجأة قائلاً: "الربُّ واحد، والعمرُ واحد." أنا لستُ نذلاً أخافُ على عمري وأترك أبويا في خطر. افرضي مات؟ كيف أسامحُ نفسي؟ قومي جهِّزي لي ملابسي. سأسافر في أول قطار يقومُ بعد الفجر.
استسلمتْ زينبُ للأمر، فهي تعرفُ أن زوجَها صعيدي، إذا رأى أمراً فلا يستطيعُ أحدٌ أن يثنيهُ عنه.
مضتْ ساعات الليل الأولى والرجلُ لا يُغمض له جَفن وهو ينظر إلى بناتِه الأربع وولده الصغير وأمِّهم وقد استسلمتْ للنوم بجوارهم. كان يمد يَده فيعدل ذراع "هدير"، أو يسحب الغطاءَ على "مريم" و"مديحة". ويسوِّي شَعْر "هند". ثم حمل يُسْري ووضعَه في حجره وقال وكأنه يرثى نفسَه: واللهِ الحِمل ثقيلٌ جداً عليكِ يا زينب. ياربِّ استُرْها.. ياربّ.. يا تُرى هلْ سأعود إليكم ياأولاد؟
سَقطتْ من عينيه دمعتان فوق خدِّ يُسْري، وهو الذي لم يبكِ أبداً مِن قبل!
عندما سمعتْ زينبُ آذان الفجْر، انتفضتْ من نومها لتوقظَ زوجَها، فوجدتْه جالساً وقد سقط رأسه على صدره إعياءً.. عندما حملتْ يُسري من حجره، قام فتوضأ وصلَّى في الجامع القريب، ثم شربَ كوبَ الشَّاي الثقيل وحملَ الصُّرة وأخذَ يوصي زينبَ خيراً بالأولاد وبنفسها، وداعبها وهو يقول ضاحكاً من وراء قلبه: ماتخافيش يا ولية.. عُمر الشقي بَقي. أنا راجع بعد خمسةِ أيام إنْ شاء الله. اقْعُدي مطمئنةً. ثم وضع فى يدها ما تبقى فى محفظته من نقود الشَّهر بعد أن احْتجز ثمنَ التذكرة والدخان.
اندس ( شحتة ) وسط ركابِ الدرجة الثالثة في القطار المتَّجه إلى محافظةِ "قنا". ومنْ هناك سوفَ يأخذُ أيَّ سيارة أجرة كبيرة مع الركاب متجهة إلى بلدته القابعة في حِضْنِ الجَبل. كان القطار متهالكاً، والرحلةُ طويلةٌ شاقة، ولا يعلم إلا اللهُ وحدَه كم من الساعات سوفَ يَقطعُها حتى يصل إلى "قنا"، فهذا النوع من القطارات.. خاصةً قطار الصعيد، يأخذ راحتَه تماماً. يتسكع فى كل بلد يَمُر عليه لا يُرغمه شيء على المشي، ولا تعنيه مواعيد الركاب وأشغالهم، فهو أَرخَصُ وسيلة للسفر.
كانتْ عرباتُ الدرجة الثالثة مجموعةً من الأخشابِ والحديد يرتطمُ بَعْضُها ببعض فترتَجُّ وتصطكُّ وتُحدثُ صريراً وزئيراً، ويصفر الهواء في نوافذها التي تهشمَ زجاجها، وتدخل الأتربةُ في دفقاتٍ منتظمةٍ من الشقوق والفتحاتِ تحتَ أرجلِ الركابِ المكدَّسين كيفما اتفق. على الأرض، وفوق المقاعد، وعلى الأرفف. يترنَّح بينهم الباعةُ الجائلون يختلط نداؤهم على بِضاعَتِهم بأحاديثِ الرُّكاب وبكاءِ الأطفال بتذمر الركاب من الشباب وكبار السن.. فتكتملُ هذه السيمفونية الفريدة المتنافرة التي ربما يُطلق عليها أحدُ المؤلفين "الكوميديا البائسة"
انزوى (شحتة) في ركن المقعد بجوار ما تبقى من النافذة، فابتَاعَ بعضَ الأكلِ وكوبَ شاي، وأخذ مع هزات القطار، يسترجع حكايتَه وهو لا يدري هل سيعودُ إلى أبنائه؟ أم يكونُ تحتَ التراب؟!!
منذ ما يقرب من خمسةَ عشْرةَ سنةً وهو هاربٌ من الثأر، فقد نشبَ شجارٌ بينَ أُسْرتِه وأسرةِ جارِهِم في الحَقْل إبراهيم عبد ربه على بضعة أسهم من الأرض الزراعية.. فقُتلَ من الأسرتين من قُتل وسُجنَ من سُجِن.. واشْتعلتِ العداوةُ بين الجيران واحتدم الثأر.
لم يجد أحمد فى نفسه الشجاعةَ ليُقابلَ بصدرهِ نارَ الثَّأر.. فَهَربَ ذاتَ ليلةٍ من هذا الجحيم، وهو يعرف أنه سوف يحمل عار الفرار فوق رأسه إلى الأبد، ولكنه كان يكره القتل وإراقةَ الدماء ويحبُّ الحياة، ويرى أن الحكومةَ هي المسئول الأول والأخير فى هذه الخصومات. أخذ يتقلب فى القرى والمدن سنوات طويلة حتى استقر به المقام فى مدينة الإسكندرية الواسعة.. عملَ في كلِّ شيء حتى يعولَ نفسَه.. حمالاً فى الميناء.. بائعَ خُضر وفاكهة. حارساً على سيارات النقل. فتوة في الأسواق. ثم بَنَّاء فى عمارة حتى إذا اكتمل بناؤها، توسَّط له أهلُ الخَيْر لقُوته وأمانتِه، فاستقر به الحال بواباً لهذه العمارة.
وتزوج زينبَ التي كانتْ تساعدُ أمَّها في صنع الشاي وبيعه للعُمَّال. كانت فتاةً سمراء واسعة العينين، خفيفه كالغزال، لا تسمحُ لأي أحد أن يُغازلَها أو يتوددَ إليها، فهي بنت إسكندرانية ذات حزم وعزمٍ وعزة نفس، كما كان يقول الناس. وحصل (شحتة) على حجرة متواضعة ودورة مياه صغيرة.. وابتسمتْ له الحياةُ أخيراً.. فنَعِمَ بحبِّ زينب.. وثقة سكانِ العمارة، وكف عن الترّْحال.
لم يكن يكدر حياته إلا إنجابُ زينب للبنات حتى صرنَ أربعاً.. وهو الرجل الصعيدي الذي يعتبرُ الخِلْفةَ هي الولد.
قال لزوجته فى إصرار: واللهِ لو خلفت عشر بنات لن أتنازل عن خلفة الولد. ولأن الله سبحانه يسامح البسطاء.. فقد رزقة "يُسري" بعد شوقِ وعطشِ كما كان يقول وهو لا يتركُه من حِضنه إلا للعمل. وأصبحَ يحب الحياة أكثر من أجل ولده.. ويؤرقه الخوف أن يعثرَ عليه أحدُ بلدياته العاملين فى المعمار وما أكثرهم فيشي به وتكون نهايته. وربما حمل ولده من بعده على رأسه نقمةَ الثأر التي لا ذنبَ لهُ فيها.
ورغمَ كل شيء، فقد كان دائمَ التَّفكير في والديه وإخوتِه البناتِ، فقد فرمت طاحونةُ الثأر أخاه الأكبر من قبل.. ولاذ هو بالفرار يحملُ سخطَ والديه إلى الأبد. وتذكر ابنَ عمِّه عامر الذي تربَّى معه.. وجمعتهما صداقه وصلة قوية، وكان عامر يعمل موظفاً فى محكمة "قنا"، فأرسل إليه عنوانَه واستحلفه بحق العيش والملح أن يحفظ سره من أجل أولاده وأن يوافيهُ بأخبار والديه.
أخيراً وصل القطار "قنا". وأفاقَ من أفكاره على الأذرع تدفعه فى طوفان من البشر وهو يحاذر في كل خطوة، ويتلفت خائفا وقد أحكم الشالَ الأبيضَ فوق جبهته وأخفى به معظمَ وجهه.. ركبَ الأتوبيس إلى المركز ثم حشر جسدَه الضخم في سيارة بالنفر متجهة إلى "إبشاي الغزال" بــ"قنا"
ولأن "الضحكة هبلة" كما يقولون، فقد وجد نفسه يضحك فى سره، ثم خرجت الضحكة المكتومة من أنفه فى صوت لفت إليه أنظار الركاب حوله فتنحنح ورسم الجد على ما ظهر من وجهه.
لقد ذكر أن بلدتَه كان اسمُها فيما مضى "ابشاق الحمار" لا يعرف سببا أي سبب لهذا الاسم، فكان أبناؤها مثار التفكه والضحك من كل القرى المجاورة، حتى إن بعضَهم كان يحجم عن المصاهرة معهم. ويذكر أنهم اشتكوا لعمدة البلدة، وتقدموا بشكاوى عديدة للمركز ليغيروا هذا الاسم، وظلت الشكاوى والعرائض من المتحملين بالقرية تضغطُ على المسؤولين حتى وافقوا على تغيير" ابشاق الحمار" ب"إبشاق الغزال". وقاموا بتغيير اللافته لتصبح هكذا (ابشاق الغزال.. الحمار سابقا ).
جلست زينب فى اليوم الخامس كما وعدها (شحتة) وسط الأولاد تنتظر وقد طبخت ونظفت الحُجرة ولبست جلبابَها الأخضرَ المشغولَ الصدرِ الذي يحبه (شحته) وقد اشتاقت إليه واشتاق إليه الأبناء.
تقدمت ساعات المساء ولم يعد. تكوَّمَتْ مع الأولاد على السرير الوحيد فى الحجره وناموا يحتضنون الأمل فى الغد، ولكن قلبها كان مخطوفا.
مضى غد وغد، ولم تعد تعرف عددَ الأيَّام والليالي التي تنتظر فيها بلا بارقة أمل. وبدأ السُّكَّان يتساءلونَ ويتحدثونَ معها وهي ساهمةٌ شاردةٌ تقلب يديها أو تضع خدها على كفِّها، وهي تقول: الغائبُ حُجَّته معه، ثم بدأت تقوم بتنظيف السلم ومدخل العمارة والسيارات، وتقضي الطلبات تحتَ ضغط السُّكان ونفاذِ صبرهم.
مضى أكثر من شهر وزينبُ تنتظر وسط دموعِها وأسئلةِ الأولاد، وتذمرِ السُّكان، وكآبةِ الليالي، وطول الأمل.
كان (البُسطجِي) يمرُّ على العمارة كل يوم يحمل الرسائل ويوزعها على الصناديق، وكانت عيونُها القلقة تتابعه كلَّ يوم عسى أن يقول لها (شحته) بعث جواباً يا أمّ يُسري. وكان هو يلحظ نظراتِها فيقولُ لها مصبِّراً : " خيراً إن شاء اللهُ يا أم يُسري اطمئني. كل آتٍ قريب. وكان دائماً فى عجلةٍ فيمضى لحاله ويتركها فى قلقها.
ولكنه فى ذلك اليوم، بعد أن فرغ من توزيع الخطابات، جلس على عتبة السلم شاحبَ الوجه يحاول أن ينتقي العباراتِ التي سوفَ يقولُها لزينبَ وهو يقرأ لها الخطاب الذي وصل من عامر ابن عم ( شحته).
خفق قلبُها وشمَّت في الجو رائحةَ الأحزان البغيضة.. جلسَتْ بجواره وقالت له مرتجفةً: اتكلم يا فتحى.. فيه إيه؟ وإيه الجواب اللي معاك ده؟ ( شحته) جرا له حاجة؟
أطرق فتحى فى صمت.. فكان صمته أبلغَ من كلِّ كلام. قالتِ المرأة فى صوت متحشرج: " قولْ يا خويا وقَّعتِ قلبى.
قال الرجل: شُدِّى حِيلك يا أمّ يُسري.. هذا جوابٌ من عامر ابن عم ( شحته )، الله يقطع الثأر وسنين الثأر, قتلوا ( شحته) غدراً وهو داخل دار أبيه.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. الله يصبرك."
سقطتِ المرأة مولولة وسط صراخ الأولاد من أجل أمهم غير مدركين ولا مستوعبين لماذا ذهب أبوهم! ولماذا لم يعد! وما هو هذا الثأر.
لم يكد يمضى أسبوعان حتى بدأ الناس الذين تعاطفوا معها ومع الأطفال والذين أبدوا حزنهم الشديد لفقد شحته يتحدثون فيما بينهم.. كيف سيكون حال العمارة بدون بواب؟
وكيف سيتصرفون مع زينب وأولادها الصغار الذين لا يقدرون الأمور ككل اطفال وبدأوا يقلبون الدنيا بلعبهم وصياحهم فى غيبة الأب (الحمش) الذى كان يسيطر على شقاوتهم تماما.
قال أحدهم: إحنا محتاجين بواب جديد ضرورى يا جماعة
قال الآخر: البواب الجديد عاوز سكن
قال الثالث فى خشونة: السكن موجود يا أسيادنا.. وزينب والعيال يشوفو لهم مكان تانى واللا يروحوا بلدهم.. إحنا مش وزارة شئون..
عندما ترامى الحديث إلى أذن زينب.. أخذت تبذل كل جهدها فى خدمة السكان وتنظيف السلم وهى تستعطف كل القلوب قائلة: شحته برضه كان خدامكم الأمين.. طيب حروح فين أنا وعيالى؟
مضت عدة أسابيع هادئه حتى حسبت المرأة أن الأمور قد استقرت وأنها باقيه فى مكانها.
ولكنها فوجئت فى يوم جمعة بعربة صغيرة مكدسة بالعفش تقف أمام العماره ينزل منها رجل شديد السمار.. فارع الطول.. يلبس جلبابا بلديا ويلف رأسه بشال أبيض حتى أن قلبها خفق وهو يذكرها بزوجها الراحل.. نزل الرجل ومعه الحوذي يساعده على إنزال العفش فى ممر العمارة الخلفى.. هرعت زينب من حجرتها مستفسرة: انتم مين وعاوزين إيه؟ لم يرد عليها الرجل وبدأ يرص تلك الأشياء بجوار الحائط وهو يستحث صاحب العربه على الإسراع فى العمل.
استغاثت زينبت بالأستاذ محمد عبد الظاهر والحاجة خيرية سكان الدور الأول.. قالت الحاجة: بصراحة دا البواب الجديد يا زينب.. إحنا قلنالك من أكثر من شهر شوفي لك مكان تانى.. عيالك قالبين كيان العمارة..
استغاثت بباقى الشكان فوجدتهم متفقين مسبقا على هذا الرأى، ولم تؤثر دموع المسكينة واستعطافها فى إثنائهم عن عزمهم.. وانحسبوا إلى شقتهم وأغلقوها. قال لها البواب الجديد: حتخرجى حاجتك بالذوق واللا نرميها فى الشارع؟
قالت فى توسل: طيب يا عم ساعدونى أحمل حاجتى على العربيه.. الله يسترها معاكم دا أنا وليه غلبانه.. والعيال دول أيتام.
انتهى هذا المشهد.. وركبت المرأة مع أطفالها وعفشها القليل على نفس العربة.. وقد هداها تفكيرها أن تذهب إلى حى الماكس حيث كانت أمها رحمها الله تسكن فى عشة أقامت بها بضع سنوات قبل وفاتها.. كانت تعرف مكان العشة فقد زراتها فيها عدة مرات.. كانت العشة تقع فى ممر بيت مهجور لا يزوره أصحابه إلى لماما.. وقد سمحوا لها بالإقامة على أن تحرس البيت فى غيابهم.
عندما وصلت وجدت بقايا الخوص والكرتون مازالت عالقة على بعض أعواد الخشب.. جلست مع أولادها فوق كومة العفش تنظر مقهورة وهى تنتحب: تعاليلى يا امة.. فينك يا امة تشوفي بنتك الغلبانة.. فينك يا شحته تشوف بهدلة ولادك! تجمع الأولاد حولها متسائلين:
إحنا حنبات هنا يا امة؟ إحنا جعانين.. وقال يُسرى وهو يحتضنها.. أنا خايف.. فين أبويا؟
قالت زينب: خليك راجل أمال يا يسرى.. تعالوا يا بنات ساعدونى.. قاموا بتنظيف المكان وفرشت الحصير ووضعت فوقه اللحاف القديم والوسائد.. ثم أحضرت لهم خبزاً وبعض الطعام، فامتدت الأيدى الضعيفة تأكل بنهم ثم القوا أجسادهم المدودة فوق الفرشة وراحوا فى سبات عميق لا يقطعه إلا صوت أظافرهم وهى تحك أجسادهم التى ألهبها لدغ البعوض.
أما الأم فلم تستطع وضع جنبها على الأرض.. بل جلست وسط أطفالها وفى يدها عود غليظ من الخشب تحسبا من كلب ضال أو فأر جائع قد توحش فى هذا القفر. كان الليل بهيما.. وصوت حشرات الخلاء ونقيق الضفادع وهسهسة الخفافيش تضفى عليه غموضا ورهبة. كانت تسمع دقات قلبها لأول مرة وتحصيها لأنها عاليه كالطبل إنها خائفة.. مُرتعبة.. تقول يارب.. يارب.. أنا وعيالى مالناش غيرك.
مع خيوط الصباح الأولى.. دبت الحركة وسط الأولاد.. يتحدثون ويتعاركون كالعادة.. أما هى فكان لزاما علياه أن تبدأ فى ترتيب شئون حياتهم الجديدة الغامضة.. والتعرف على المنطقة والناس المحيطة.. والذهاب إلى السوق.. واعادة بناء العشة.. عشرات المهام الثقيلة التى تفكر فيها وحدها. كانت هدير الإبنة الكبرى فى التاسعة من عمرها وباقى الأولاد فى تسلسل تنازلى.. جمعتهم وقالت لهم فى حزم: إحنا خلاص حنعيش هنا.. أبوكم راح عند ربنا مش حيرجع.. لازم تساعدونى وتتحملوا معايا.. وإن شاء الله ربنا كبير حيفرجها.
فى الطريق إلى السوق تعرفت على بعض النسوة.. وفى دقائق كانت الكلفة قد زالت بينهم ولم تعد هناك أسرار.. وعندما عرفوا حكايتها الحزينة.. قالت إحداهن تعرفى يا أم يسرى إن فيك شبهاً كبيراً من الخالة ذكية اللى كانت بتبيع الشاى للعمال والبياعين فى السوق!
وكأنها غريق مُد له طوق النجاة.. قالت فى انفعال: ما أنا بنتها.. أخذتها المرأه بالحضن قائلة: ألف رحمه ونور عليها كانت حبيبتنا كلنا كانت بتسلف الناس وتصبر عليهم فى الدفع.. وساعات يغالطوها أوما يدفعوش.. تسامحهم وهى تقول: أهم غلابة زينا.. خليها على الله.
قالت الأخرى: والنبى طيبتها حيقعد لك يا أم يسرى.. طيب يا أختى ما تاخدى مطرحها.. والناس لما حتشوف ولادك الأيتام وتعرف إنك بنت الخاله ذكيه حتساعدك.. واحنا كلنا إخواتك.. دا كل واحده فينا لها حكاية انقح من حكايتك. أختك أم خالد بتبيع خضار وعندى أربع عيال وأبوهم طفش.. وأختك أم حميده واشارت إلى المرأة الأخرى بتبيع بساريا وعندها سبع عيال وأبوهم سابها واتجوز ولا بيصرفش عليهم.
قالت زينب وهى تشعر أن ربنا استجاب دعاءها: ربنا يستركم دينا وآخرة عاوزه الأول ابنى العشة بتاعة أمى اللى اتهدت علشان العيال تتأوى دلتها النساء على أماكن بيع قطع الخشب المستعملة والصاج والخيش والبوص.. وأوصوا أهل السوق أن يصبروا عليها فى الدفع حتى تعمل ويفرجها ربنا عليها.. "وكان مفتاح هذه الأبواب" دعى بنت خالتكم ذكية وعيالها أيتام.
حملت لها إحدى العربات الكارو هذه المستلزمات، والتقطت من الطريق بعض الأقفاص الفارغه.. والصفائح وأكياس البلاستك وقطع الكرتون ووضعها فوق الخشب وركبت هى والعيال حتى باب البيت، نفحت الحوذى بما تبقى معها من قروش ودعت له.
لم تعرف زينتب من أين أتتها هذه القوة وهى تحفر الأرض لتضع الأعمدة الخشبية وتدق حولها الخيش ثم تضع ألواح الصاج على السقف وتصنع باب من الخشب والكرتون.. وتسد الفرج بالأقفاص والصفائح الفارغه.. وهى تسابق النهار حتى يبيتون وسط جدران تسترهم من طارق الليل.
فينك يا غالى! يا ترى مين اللى قتلك غدر وحرم عيالك منك.. يا ترى راقد فين يا سبعى؟! لقد كان شحته رغم حماشته يدلل زينب ويغار عليها.. ولا يدعها تخدم أحد من السكان أو تذهب إلى السوق أو تحمل هم شئ وكان يقول لمن تطلبها للمساعدة فى أعمال البيت من سيدات العمارة: إحنا ناس صعايدة ما نشغلش حريمنا.. أنا تحت أمركم ليل نهار لكن "مرتى لع" عثرت زينب على صندقو قديم من الكرتون بجوار أحد حوائط المنزل.. ولما فتحته أحست للمرة الثانية أن ربنا يسمع دعاءها وأنه سبحانه أرسل لها الفرج.. وسمعت ذكيه أمها تقول لها خدى عدة الشاى دى يا زوبة وربنا معاك يا بنتى.. خليكى جدعة.
أخرجت زينب محتويات الصندوق، براد شاى كبير وآخر صاج قد أزيل طلاؤه فى عده أماكن.. صينية صفراء صغيرة عدد من الأكواب الزجاجية.. وابور جاز كبير.. طبلية خشب مربعة وجردل السغيل الأكواب كانت العده كاملة ولكنها بحاجه لإصلاح ونظافة.
فى صباح اليوم التالى حملت زينب جزء من العده على رأسها فى سبت وتبارى الأطفال فى حمل الباقى وهم يتضاحكون ويتواثبون فى براءة.. وكأنهم يمارسون لعبة جديدة مسلية وهم لا يكفون عن طلب الطعام. عندما وصلت السوق قصدت المكان الذى تجلس به أم حميده وأم خالد وباقى صديقاتها الذين يثلمن درع الأمان وسط هذا العالم المتصارع على لقمة العيش.. قالت لها أم حميدة: انت حتقعدى بجوارنا هنا السوق له فتوات.. الدنيا مش سايبة زى ما أنت فاكره يا أختى.. حمو فتوة الرجالة.. وأم قلة فتوة النسوان عفية وبألف راجل.. وحمو نفسه بيعمل لها حساب.. سيبى العيال هنا وتعالى معاي أعرفها عليك.. وتحكى لها حكايتك.. وتستأذنيها تقعدى تعملى الشاى بدل أمك..
وخالتى ذكية كانت بتديها المعلوم علطول.. وعمرها مازعلتها.
قالت زينب: والمعلوم دا إيه؟
قالت المرأه. ثلاثة جني فى أول كل شهر. وكباية شاى حلوة الصبح
- ولو ما حصلش كده!
- بلاش أخوفك.. إنت حتشوفى بنفسك.. اسمعى كلامى تكسبى.. انت عارفه الناس مسمياها أم قله ليه؟
- ليه؟
- زمان من كان سنه.. اتعارك معاها واحد من رجالة السوق الجدعان خدته على خوانه وفقعته بالقلة مليانة.. الرجل دماغه انفتحت وسورق ونقلوه المستشفى.. من ساعتها الناس سمتها أم قلة والكل بيعمل لها ألف حساب.
استقرت زينب فى مكانها الجديد مطمئنة بعد أن قابلت أم قلة ونالت رضاها. كانت المرأة الفتوه سمراء فى نحو الخمسين لها عيون حاده كعيون الصقر وقد وضعت فيهما طبقه من الكحل الأزرق الكثيف تلم رأسها فى منديل أسود محلى بالخرز الذهبى.. ولها سن ذهبيه تلمع فى فمها عندما تتحدث بصوتها الرجالى الخشن.. لا تكف عن المناوشة ولا تتورع عن سب أى مشترى يحاول أن يقلب فى مشنات الخضر التى تبيعها.
أما السوق فكان عالم صاخب يجمع كل ما فى العالم من خير وشر.. يتصارع فيه الخلق على لقمة العيش من حلال أو من حرام.. يظل الناس فى بيع وشراء وفصال ومساومة وحلف كذب.. ونداء على البضائع.. وعراك قد يصل إلى التشابك بالأيدى.. يختلط كل ذلك بصوت راديو مفتوح على القرآن أو مسجل يذيع الأغانى. ويشهد السوق من وقت لآخر اقتحام عساكر البلدية يثيرون الهلع.. يقلبون العربات.. ويجمعون البضائع أو يبعثرونها.. يجرى الناس ببضائعهم من أمامهم كالفارين من الطوفان.. وما يلبث أن يعود كل شئ كما كان بعد ساعات قليلة.. فيهم من خسر رأس ماله وفيهم من استطاع الفرار.
ولا تخلو اللوحه من المتسولين واللصوص والسماسرة والأرزقية ويحكْمُه الفتوات.
كانت النقله كبيره بالنسبة لزينب وأولادها الذين عاشوا وسط أسر متحضرة.. طلباتهم محدودة.. لا يتعدى أحدهم الذوق واللياقه فى اللفظ والمعاملة إلا فى أضيق الحدود.
بعد مرور سنة
اكتسبت زينب صلابة.. والمت بكل شئ فى بلدهم الجديد.. وتعرفت على المزيد من الصديقات.. وأدخلت الأولاد المدارس..
كانت زينب جميلة مشدودة القوام فى اللبس البلدى المحتشم.. لا تخضع بالقول ولا تنبسط مع أحد.. ومع ذلك فقد تعرضت لمعاكسات الرجال وتلقت العديد من عروض الزواج.. ولكنها كانت قد اتخذت القرار الصعب أن تعيش على ذكرى شحتة وتربى أولاده أحسن تربية.. لم تفارقها الأحلام أبدا فى مطرح نظيف تحفظ فيه الأولاد مما يتعرضون له من متاعب فى هذه العشة التى لا تصد مطر ولا تستر من حراره الشمس.. وليس بها أى نوع من الأمان. من أول يوم علم قررت أن تدخر بعض القروش عملا بالمثل القائل "القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود" كانت تضحك فى سرها قائلة: اشمعنى يعنى اليوم الأسود؟ القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأبيض برضه. اتخذت من أحد الصفائح التى تدخل فى تكوين العشة خزانه سرية وضعت بها كيس بلاستك وأخفت فتحتها جيدا.. تضع فيها مبلغ صغير كل يوم مهما كانت الظروف وشدة الحاجة.
وجاء اليوم الذى عملت حسابه.. عندما صرخ يسرى قبل الفجر والظلام مازال يخيم على كل شئ.. الحقينى يا أمه.. رجلى.. رجلى.. قامت تتخبط فى فزع واستيقظت البنات صارخات على صراخ أخيهم.. وعندما رفعت شعلة لمبة الجاز التى تحتفظ بها دائما بجوارها.. رأت فأرا ضخماينفلت من أحد الثقوب هاربا من صوت الصراخ.
ووجدت إصبع القدم الكبير ليسرى يسيل الدم من جرح غائر فيه وبدا واضحا أن الفأر الهارب حاول قضمه.
ما كاد نور الصباح يشرق حتى أسرعت تحمل الولد إلى الاسبتالية ولقد لفته قدمه بمنديل نظيف بعد أن غسلتها بالماء والصابون.
كان لابد من إعطاء يسرى واحد وعشرون حقنه ومتابعته خوفا من إصابته بالسعار. عندما نام الصغار تلك الليله بعد يوم شاق.. جلست أمهم تحرسهم.. وأخرجت خبيئتها تحصى ما فيها.. وجدت المبلغ يسمح بدفع مقدم حجره وسط العمار.. ولكنها لم تقنع بذلك. فقررت أن تجعل البحث عن شقة متواضعة همها فى الأيام التاليه حتى كلف قدماها وجدت أخيرا شقة مكونة من فسحة وحجرة وعفشة مياه.. فرحت بها فرحا شديدا ودفعت المقدم الذى طلبه المالك لم يكن عندهم شئ كثير يحزمونه.. فقد عاشوا الفترة السابقه على نفس الفراش الفقير البسيط الذى حملوه معهم فى أول عهدهم بهذا المكان.. ما كان أشد فرحتهم عندما أغلقوا عليهم باب الشقه الخاصة لأول مرة.. نظروا فى انبهار على السقف والجدران والحمام، وتأملوا المصابيح الكهربائيه فى السقف.. وفتحوا ضرف النوافذ وأطلوا على الطريق غير مصدقين.. أمامهم البقال والمكوجى والعيال تلعب والناس فى حركة لا تهدأ.. ونسى.. رقص الأولاد واحتضناو بعضهم بعضا.. أما أمهم فقد جلست وأسندت ظهرها للحائط وبدت ساقيها المتورمتين المشققة الأقدام وبكت كما لم تبك من قبل.. وحمدت الله كثيرا.. وترحمت على شحته.
فى الشهور التاليه أخدت زينب تشترى ما تستطيعه من أثاث بالتقسيط حتى يشعر الأولاد بالراحة ويتفرغوا للمذاكرة. الشئ الغريب حقا أن العشة القديمة تنافس على تأجيرها بعض العائلات النازحة من الصعيد وبحرى طلبا للرزق.. واستأجرها أحدهم بخمسة عشر جنيها فى الشهر.
واعتبرت زينب أن هذا رزق الأولاد ساقه الله إليها حتى تحقق حلمها الأكب رفى شراء قطعة أرض فى منطقة أبيس الجديدة تبنى عليها بنيا فسيحا فالأولاد يكبرون.. ويسرى سوف يحتاج شقة فى المستقبل يتزوج فيها.. وقد شجعتها صديقاتها على ذلك.. فقد سبقنها واشترى بعضهم أرضا من الأعراب الواضعين اليد على هذه المناطق، بأسعار زهيدة.. نعم قد ارتفعت الأسعار عن ذى قبل، ولكنها مازالت فى متناول اليد مع شئ من التدبير والتقتير. ومع كل ذلك لم تخل حياة الأسرة من أوقات هنية يجتمعون فيها حول طعام جيد من صنع الأم.. أو فسحة بريئة فى بحرى على شواطئ الإسكندرية.
ولم يخذل الأولاد أمهم المكافحة.. فقد وعدتهم بييت جميل مريح إذا اجتهدوا ونجحوا وحققوا أحلامها.
بعد عشر سنوات
الأعمدة الخرسانية قد ارتفعت فوق قطعة الأرض الجديدة.. حوائط الطوب الأحمر بدأت تشكل معالم البيت.. الحلم.
كبرت البنات وأصبحن فى سن الشباب.. يقطعن مراحل الدراسة إجتهاد وذكاء.. جميلات محتشمات يتهافت عليهن الخطاب.. ولكن زينب كانت مصرة على أن تحصل كل واحدة منهن على شهادتها.. سلاحها فى الحياة.. كانت تقول لهن بحزم: إحنا ناس فقراء.. ثروتنا الشرف والعلم.
تخرجت هدير من معهد التمريض العالى وعملت فى أحد المستشفيات الخاصة فتحسنت أحوال الأسرة وأصبحوا ينعمون بشئ من مرات الحياة.. والحتقت مريم بكلية التجارة.. ومديحة باملعهد العالى للخدمة الإجتماعية.. أما هند فقد كانت فى عنق الزجاجه.. تجتهد فى الثانوية العامة حتى تكون دكتورة كما تُطلق دائما على نفسها الدكتوره هند.. مش مصدقين؟ بكرة تشوفوا.
أما يسرى فقد كان إحساسه أنه الولد الوحيد جعله مدللا لا يأبه للتعليم.. ولا يهتم إلا بالشلل والأصدقاء.. فكان دائم الهروب من المدرسة.. لم يؤهله مجموعة الضعيف فى الإعدادية للإلتحاق بالثانوى العام كإخوته.. وقد سعت زينب عند كل المعارف حتى أدخلته أمناء الشرطة.
ثم جَرَت على زينب سنة الحياة.. فعندما أوشكت على إتمام رسالتها وآن للجسد المكدود أن ينعم ببعض الراحة.. وتبدأ فى جنى ثمار الشجرة التى غرستها واحتضنتها وروتها بعرقها ودموعى.. بدأت تشكو آلام المفاصل والضغط العالى.. وضعف النظر.. ولكنها كانت من بين آلامها راضية تحمد الله كثيرا وترى أنه أعطاها أكثر مما حلمت به..
شئ واحد كان ما يزال يراود خاطرها ويؤرقها..
كيف مات شحته؟ وأين دفن؟
وهل يستطيع يسرى يوما أن يزور قبر أبيه دون الخوف من الثأر؟؟
قالت لها جارتها فى السكن الجديد أم عبد الله وقد عرفت كل حكايتها:
انت مخلصة وبطلة والله يا أم يسرى.. مين يتحمل اللى احملتيه!!
قالت زينب: ياه! وأنا أروح فين جنب الأمهات فى بلدنا؟
اللى يشوف بلوة غيره تهون عليه بلوته يا ست أم عبد الله الحمد لله..
قالت أم عبد الله: بصراحة.. ابنك عبد الله بقى مهندس قد الدنيا وطالب القرب منك فى هدير.. أدب وكمال ونبقى جيران ونسايب كمان.. أطلقت زينب زغرودة فرح من كل قلبها لأول مرة منذ سنوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى