عبدالله السلايمة - سكتة قلمية.. قصة قصيرة

كعقاب على رفضي القاطع طباعة كتاب مشترك بيننا، دأب "صالح" على استفزازي حتى فاض بى الكيل، ودفعني غضبى منه ذات مرة لتوبيخه ووصفه بالغبي، فما كان منه إلا أن رد في تحدٍ: لنرَ أي منّا يفوق الآخر ذكاءً.
أبت نعرة البداوة بداخلي قبول ما اعتبرته إهانة، فكيف لمثله أن يعلن تحديه بشكل سافر لرجل صحراوي مثلى، الأمر الذي دفع بى لقبول تحديه.
وكأنه وجدها فرصة لمعاقبتي على طريقته الخاصة، فاجأني قائلاً فى ثقة أثارت دهشتي:
ـ لا أريده تحديًا
ـ ماذا تريد إذًا؟!
أجاب بنفس نبرة الثقة، مؤكدًا:
ـ بل رِّهانًا..
أشعرتني ثقته الزائدة بشيء من الارتباك، حاولت السيطرة عليه بافتعالي ابتسامة استخفاف، من خلفها تساءلت:
ـ علام؟!
نظر فى عينيّ مباشرة، وبدا على وجهه سمات التحدي، وهو يجيب:
ـ على أن أشاركك طباعة كتاب، إذا ما فزت بالرِّهان.
ـ وإذا ما خسرت؟
ـ لك أن تحكم علىّ بما تراه.
ولما أجهض البدوي داخلي أي محاولة للانسحاب، قبلت الرِّهان على مضض.
لو كان قد اكتفى لاحقًا بإقراري له بخسارتي، لما دفعني للعض على نواجذي ندمًا كلما تذكرت ذلك اليوم المشئوم الذي وافقت فيه على قبول مراهنته، وإحساسي الدائم بالعار للحد الذي جعلني أفكر بشكل جدي في أن أترك له البلدة بكاملها.
لم يبدُ عليه أنه ذكى، فقد كان بسيطًا وثرثاراً للحد الذي جعلني أحكم عليه بالسطحية، تصوري الخاطئ عنه واستهانتي بقدراته، هما ما دفعا بى لأن أحكم عليه من الخارج، وأغفل عن حقيقة أنه من ذلك النوع من الرجال الذي يصعب معرفة ما بداخله، حكم تسرعت فى اتخاذه، وكلفني ثمنًا باهظًا.
لم يكتفِ بما سببه لي من إنهاك على مدى أيام، قضيتها فى تخمين ما قد يتبعه من أساليب غير نزيهة ليس لضمان خروجه من المعركة منتصرًا، بل خسارتي لخطيبتي الذى وصل إليها بطريقة أوقفت شعر رأسي دهشة وغيظًا.
بعد أن تأكد له استنفادي لكافة أساليبي الوقائية، وربما نسياني الأمر برمته، فاجأني ذات يوم برفقة شاب في المقهى، عرّفه كأحد المعجبين بكتاباتي، غمرتني لحظة انتشاء، تحت تأثيرها ابتسمت بشكل ينم عن امتناني لتقديرهما لي، أخذت أفتش فى حقيبتي علني أجد كتاباً يخصني، ويرقى لمستوى توقعات الشاب بى. ولحسن حظي، وربما لتعثره، تصادف أن وجدت واحدًا.
ولكي تكون المؤامرة أكثر إحكامًا أخذ "صالح" يثنى على ذوق الشاب الرفيع ورُقيه، مستشهدًا باختياره لمثل أعمالي، ولم يفته امتداحي بشكل أشعرني كما لو كنت أسدى للشاب جميلاً وأنا أكتب له إهداءً بخط يدى، وأناوله الكتاب.
ولم يُضٍع اللئيم وقتًا، وشرح للشاب ما عليه فعله.
أمام باب منزل خطيبتي الذى كنت سأعقد قراني عليها قريبًا، وتصادف وقوفها بالشرفة تسلى وحدتها بالفرجة على المارة، تظاهر الشاب بسقوطه إثر تعثره بحجر، أمسك بقدمه متظاهرًا بالألم، ما دعا خطيبتي الساذجة للإشفاق عليه، ومحاولة مساعدته.
دعته للجلوس فى مدخل البيت، وعرضت عليه أن تمده ببعض الإسعافات الأولية، إذا ما كانت حالته تستدعى ذلك.
شكرها على اهتمامها، واعتذر على إزعاجه لها، فاستأذنته ألا يبرح مكانه حتى تحضر له مشروبًا، لم يمانع متظاهراً بالامتنان لها، وما أن استدارت داخلة حتى أسرع بالمغادرة تاركًا الكتاب الذي أهديته له صباحًا خلفه على سلم المنزل.
فى المساء ذهبت لأصحب خطيبتي في نزهة، وفيما كنت جالسًا بانتظار انتهائها من زينتها، رحت أمرر نظري في إرجاء الصالون، لمحت كتابي ملقيًا على الأريكة، همست في ارتياح: "ربما كانت تقرأه"، لكنني ما أن قلبت غلافه حتى صدمني ما لم أكن أتوقعه. همست مأخوذاً: "يا الله أنه نفس الكتاب الذي أهديته للشاب فى الصباح".
عقدت ذراعيّ فوق صدري في توتر، جلست ساهمًا، حاولت طرد الأفكار السيئة من مخيلتي، لكنها أبت المغادرة قبل أن تخلّف وراءها فكرة أن خطيبتي تخونني.
وكدليل دامغ على خيانتها لي ما أن دخلت حتى تساءلت وأنا أرفع الكتاب أمام ناظريها: من أين لكِ بهذا؟
وفيما كانت تحاول شرح ما حدث، رحت أتفحصها بنظرات مرتابة، وتشي بعدم تصديقي لها، ما زاد من حدة تصاعد التوتر وشُقة الخلاف بيننا، وما دفع بى في النهاية لأن أتركها وأغادر شاقًا طريق عودتي كثور هائج. لاعنًا "صالح" واليوم الذي تعرفت فيه إليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى