كرم الصباغ - من الوريد إلى الوريد.. قصة

قربت الراديو (الترانستور) من شفتيها، و طبعت عليه قبلة حانية، و أدنته من أذنها، و أصغت إلى أغنية قديمة. كان العندليب يشكو وجدا و احتراقا، يشبهان ما استقاد في قلبها؛ قالت: لعلي أجد في نهر الغناء بردا لجمري المنتبه. لم تدرك الفتاة في غمرة شوقها أن مغتسل الغناء حار، و أن النهر مثلها تماما يضج بناره، و لما كان لصوت العندليب غواية، لم تعبأ بالغرق، و راحت تسبح في النهر الملتهب، و أخذت تصبر نفسها بحلاوة الشدو، في حين ظلت تكتوي بجمر الانتظار، الذي لم ينطفئ قط.
(٢)
رغم أنها كانت على شبه يقين من أنه لن يحضر قبل موعده بأية حال من الأحوال، إلا أنها لم تقو على مغالبة الشوق؛ فخرجت إلى الشرفة مرة بعد مرة، و أرسلت نظراتها المتوترة إلى الشارع، و قضت يومها، تناجي أشياءها المفضلة؛ فتحدثت تارة إلى راديو صغير، أهداه خطيبها إليها، و شكت تارة أخرى إلى خاتمها ما انتاب قلبها من انقباض مفاجئ.
دخلت الفتاة غرفتها، و أخرجت من بين طيات دفاترها زهرة نرجس، راحت تمسد بتلاتها بأصابعها الناعمة، و ما إن نظرت إلى مرآتها، حتى رأت ما ارتسم علي وجهها من علامات القلق و الاضطراب، الأمر الذي دفعها إلى الخروج إلى الردهة سريعا.
مدت بصرها إلى الجدار المقابل، و راحت تتفحص ساعة الحائط، و أخذت تستحث عقاربها الخاملة على الدوران؛ إذ اعتقدت أن العقارب تعاندها منذ الصباح، و تتعمد التلكؤ، حتى خيل إليها أن ساعة الحائط البليدة قد سلبت من الوقت البشارة، و أن العقارب الخاملة لن تشير إلى الخامسة مساء أبدا.
(٣)
كان قد أهداها ذلك الراديو منذ عام تقريبا، يومها اشترى لنفسه راديو مماثلا، صار رفيقه و مؤنسه طيلة ليال، قضاها بين جدران معسكره. انقضى العام؛ فحصل على إجازة (الرديف) منذ عدة أيام، و اليوم توجه منذ الصباح الباكر إلى المعسكر؛ لينهي إجراءات التعبئة الثانية. أخبرها بأن الأمر لن يستغرق سوى بضع ساعات، سيسلم فقط مخلته، و سيتسلم شهادة إنهاء خدمته العسكرية، و لأن الحدث يستحق، وعدها بالحضور إلى منزلها؛ كي تشاركه الفرحة و الاحتفال.
(٤)
الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر، ودت الفتاة، لو تسمع تغريد العصفور، الذي ظل حبيسا طوال الوقت في علبة الجرس البلاستيكية، ودت لو حمل إليها التغريد حبيبها على جناحيه، لكنها قطعت حبل الأمنيات، و مضت تسأل نفسها: كيف السبيل إلى ذلك؟! مضت تقول بشفقة، و سأم: ما زال أمام عصفوري ثلاث ساعات كاملة، سوف يحترق خلالها مثلما أحترق، أترى هذا المسكين المتشوق إلى التغريد يشبهني؟! أتراه مثلي يكابد آلام سجين، حبسه الشوق في علبته المصمتة؟!
أخذت رائحة معطر الجو تتلاشى شيئا، فشيئا، في حين توقف الراديو عن بث الأغنيات، فجأة؛ ليحل محلها صوت مذيع، أعلن عن ورود نبأ عاجل، تهيأ لقراءته بصوت متهدج حزين. ذكر المذيع أن ثمة حادثا إرهابيا وقع منذ قليل، على مقربة من معسكر من معسكرات الجيش، فبعد خروج الجنود من بوابة ثكنتهم، ظهرت دراجتان بخاريتان، حملتا أربعة ملثمين، صوبوا وابلا من الرصاص إلى صدور جنودنا.
شرع المذيع يقرأ أسماء الشهداء؛ فملأت رائحتا الدم و البارود أنفها. راح ينعي زهورا، شربت الرمال نداها على استحياء؛ فرأت أشباه رجال يحيطون بها، أشباه رجال حسبتهم شياطين للوهلة الأولى. رأت سحنا كريهة، و غبرة تكسو الوجوه، و قيحا يسيل من الأفواه، أبصرتهم يرقصون كالحيات، و سمعت لحنا جنائزيا، يصم الآذان. أبصرت أيديهم تتخاطف أنخاب الدم، رأتهم يعاودون الكرة، يشربون، و لا يرتوون.
الطنين ينهش أذنيها، و الدوار يحوم في رأسها؛ فتسقط أرضا، و جسدها يتشنج، و عيناها الزائغتان، تلمحان خطيبها وسط الزهور، ممددا على الرمل، تلمحانه، متوضئا بالنور، يتقاطر الألق من وجهه. المذيع يعلن الحداد؛ فتسكن موجات الأثير، و يصمت الراديو، فجأة، و ينزوي العصفور في سجنه البلاستيكي بلا حراك، و تنفجر زهرة النرجس، و المرآة، و خاتم الخطبة بالبكاء. نبض الفتاة يخفت شيئا، فشيئا، حتى يتوقف تماما، في حين تحاصر الدماء جسدها من كل جانب، بعد أن ذبحها البيان العاجل من الوريد إلى الوريد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى