ابن ناس قصة قصيرة للكاتب طارق محرم

يا له من صوت خرج من سقف حلقه!

ذهل الجميع ونظروا له غير مصدقين، وفي الواقع كان هو أيضا غير مصدق فقد خرج منه بدون أن يدري وكأنه شخص آخر. يبدو أنه قد تعلم الدرس!

في البيت، يستمع "طاهر" إلى الموسيقى واضعا السماعات متأثرا بما يسمعه من موسيقى مع سقوط الدموع من عينه، يقطع اندماجه مع الموسيقى صوت بائع روبابكيا أجش نجح في اختراق السماعات وأذنه، فيغلق الموسيقى، ثم يقوم ليفتح باب الشقة ليأخذ الجريدة فيلحظ القطة اللعينة وقد نظرت إليه باستهتار بعد أن قامت بما تفعله يوميا من إعطاء "بركتها" على الممشاة أمام شقته، يحاول تخويفها ببعض الحركات البهلوانية فتتابعه بعينيها ورأسها ثم تمشي متباطأة رافعة ذيلها في وجهه. هل تقرأ القطط ما بين عيون الناس فتستطيع أن تقرر إذا كان الذي أمامها يستحق أن تهرب من أمامه أو أنه يستحق أن تستخدم ممشاة بابه محلا للراحة؟ لقد قام بتغيير الممشاة عدة مرات عسى أن تشم فيها رائحة مختلفة فتصاب بالحيرة، ولكن باءت جميع المحاولات بالفشل فرادار هذه القطة موجه ناحية شقته رغم وجود عدة شقق أخرى تستحق ذلك!

في العمل، الوضع لا يختلف كثيرا، فضلات الموظفين تأتي أيضا أمامه ولا يستطيع معها شيئا. ويظل دائما يتساءل بينه وبين نفسه "لماذا ربيتني يا أبي على الفضيلة؟"

إن تربيته ودراسته في الخارج لم تعطه الفرصة كي يتصعلك، كما أن أباه كان من الجيل القديم الذي يعطي للأخلاق والفضيلة مكانة كبيرة. وبعد الرجوع من الإعارة عاد الأب إلى عمله القديم الذي تركه منذ فترة طويلة فلم يستطع المواءمة والتكيف، وسرعان ما أصيب بذبحة صدرية وتوفى، وهاهو "طاهر" يرث ما لم يكن يرغب في وراثته - الأخلاق.

لقد شاهد عدة مرات فيلم "سواق الأوتوبيس" وكم تمنى تكرار مشهد النهاية على الطبيعة "يا ولاد الكلب"، ولكن هيهات!

حاول مرة أن يتقمص دور القرد في فيلم "كوكب القردة" وقال "No" وندم بعدها حيث تم توبيخه وإحراجه فتراجع!

وقد تصادف في يوم ما أن رأى شتيمته بعينه من أحد الموظفين الذين يرأسهم؛ والحكاية أن الموظف كان يراسل أحد زملائه على الواتس آب وأخطأ بإرساله الرسالة إليه شخصيا بدلا من زميله وكان يسبه لأنه لم يبتسم في وجهه ذلك اليوم. يعلم "طاهر" بما له من خبرة أنه من طبائع الأمور أن يلعن الناس بعضها البعض ولكن في الخفاء أو فيما بينهم، ويكون حظه أسود من يصل رأيه إلى من يتم لعنه، وكان هذا الحظ الأسود من نصيب ذلك الموظف هذا اليوم، وعند مواجهته أفاد بأنه لم يكن يقصده هو بل "طاهر" آخر وقد خلط بينهما. لم يكن يلقي باله كثيرا للرد على مثل هذه التفسيرات الطفولية فكان يكتفي ببلع مرارته.

المحيطون حول طاهر يطلبون منه ألا يكون "طيبا" بزيادة سواء كان القصد هو الكلمة ذاتها أو بقصد الإهانة، وهو بالفعل لا يعرف كيف يكون شريرا!

جاءه في يوم من يبلغه في العمل بأنه سوف يتم ترقية شخص ما ليصبح رئيسه المباشر، وهو شخص قد تم تعيينه منذ وقت قريب "بالواسطة" وقام هو شخصيا بتدريبه وكان يرى فيه شخصا تافها لا يوجد لديه أي نوع من الذكاء العاطفي أو حتى البيولوجي.

الغيظ المكتوم سوف يعيد تجربة أبيه وهو لا يريد ذلك، كم يود أن يجد من يعلمه الفظاظة والوقاحة والبرود. لقد عاش في وطنه فترة طويلة من المفروض أن تكون قد غيرت من طباعه ولكن يظل "الفقري فقري". وفي يوم ما صادف أن رأى تعقيبا ساخرا في "الفيس بوك" على إنشاء مدرسة لتعليم الوقاحة للمبتدئين، وهي فرع لمدرسة دولية في السويد. ومن توه قام بالبحث عن هذه المدرسة على "جوجل" حتى وجدها، فقرأ على صفحتها الرسمية أن سبب إنشائها هو أن "الكثير من البشر لا تسمح أخلاقهم بالرد على من يعاملهم بفظاظة ووقاحة فيحزنون داخليا مما قد يتسبب في أمراض نفسية وعضوية، ومن هنا فالمدرسة ظهرت لتعين هؤلاء على أفضل الطرق للرد على مثل هذه الوقاحة مع إضافة كل بلد للمستها المحلية".

بحث طاهر عن فرع هذه المدرسة حتى وجده، وبالاتصال بهم فهم أنهم سوف يفتتحونها في القريب العاجل. سارع طاهر بالمشاركة حتى يستطيع أن يتوازن في هذه الدنيا اللعينة.

المكان يوحي بالسجون نوافذه ضيقة مفتوحة على حارة ورائحته كرائحة ما تحت الكوبري. الوجوه حائرة تلتقي لأول مرة، ولكن يبدو عليها أنها وجوه "ناس طيبين".

"المكان مقصود أن يكون بهذا الشكل والرائحة، لأنكم بعد انتهائكم من هذه الدورة سوف تخرجون وقد اعتادت أعينكم وأنوفكم وآذانكم على كل ما هو كريه" قالها شخص دخل عليهم يبدو أنه المسئول، واستطرد "إن تغيير طبائع الإنسان ليس بالأمر الهين وهو مثل القيام بالتمارين الرياضية يجب أن تعتادها رغم مشقتها حتى تحصل على النتيجة المرجوة".

المحاضرة التعريفية كان الهدف منها هو تعريف الزملاء ببعضهم البعض وتوضيح الهدف من البرنامج.

"هذا البرنامج موجه لكل شخص يشعر بأنه لا ينتمي إلى هذا العالم أو أنه لا يستطيع التكيف مع من حوله من قليلي الذمة والأدب والضمير، وسوف يتكون من بعض الورش النظرية والعملية لتطبيق ما يتم أخذه".

كانت هذه المحاضرة التعريفية هي البوابة التي شعر معها "طاهر" بأنه على وشك تغيير حياته وبأنه قد لا يموت قهراً، وانتظر بفارغ الصبر موعد أول درس له في عالم الوقاحة.

الورشة الأولى: التنفيس

"إن أخطر شيئ على صحة الإنسان هو أن يكتم ما بداخله، تعود من الآن على تنفيس ما بداخلك بعمل شيئ واحد؛ قم بتقليد الحلة البريستو ولكن بشكل معكوس. سوف نبدأ من الآن وبداية كل ورشة في عمل تمرين هام جدا لمدة خمس دقائق وهو أخذ شهيق عميق مع إصدار صوت يشترك فيه سقف الحلق مع الأنف، في مرة تكون مع فتح الفم، وفي مرة أخرى مع ضمه. مرة بصوت خفيض ومرة بصوت مرتفع. بعد عدة تجارب في الورشة وفي المنزل، سوف تقوم بتجربة هذه التقنية مع من هم أقل من مستواك الوظيفي أو مع حارس العقار مثلا، وحاول أن يتم هذا الإلقاء أمام عدد من الأشخاص حتى تصنع لنفسك سمعة تفاجئ بها الجميع، وعندما تتقنها من الممكن أن تقوم بذلك مع من هم في نفس مستواك الوظيفي".

كان طاهر يستمتع بما يسمعه فهو كان يود أن يخرج مكنونات صدره المليئة بجميع القاذورات التي كان يختزنها وترفض الخروج نتيجة للفلتر الذي كان يخرج له لسانه، وكان يجتهد في الإلقاء مثل الممثل الذي يستمتع بأن يمثل شخصية بعيدة عنه ولكنها تشفي جزءا مغايرا لشخصيته، فكان يكرر، بالذات، تجربة هذا الأداء اليومي بأخذ الشهيق مع إصدار الصوت الذي أصبح يطربه، وكان من أجل ذلك يغلق الباب عليه في البيت أو العمل ويكرر الصوت مرارا وتكرارا حتى فاجأته زوجته يوما عندما أخبرته بأنها سمعت منه هذا الصوت فأخبرها بأنه راحت عليه نومة أثناء مشاهدته للتلفزيون.



الورشة الثانية: الرد وحرق الدم

"أكتب بشكل يومي الأحداث التي تمر بك وكيفية ردك عليها سواء في العمل أو الشارع ودعنا نناقشها في الورشة القادمة، خاصة إذا كان الحدث عبارة عن انتقاد لك أو هجوم عليك ولابد أن تعلم أن الثقة تنبع من داخلك أنت لا من كلام الآخرين عنك. حاول ألا تعطي تبريرا لما تفعله"

وبالفعل قام طاهر بكتابة ما حدث له في ذلك اليوم السخيف "حضرت إلى اجتماع كنت مدعوا له مع بعض المدراء الذين لديهم تلك السماجة التي تجعلك تود أن تتحسس حذاؤك، وقد كان حاضرا هذا الشخص الذي تمت ترقيته ليكون مديرا علي، وقد كان يحاول أن يكون له رأي أثناء الاجتماع فكان "يهلفط" بكلام ليس له معنى سوى أنه يبين مدى تفاهته وضحالة تفكيره، وفي أثناء الاجتماع قام بتوجيه "أمر" إلىّ بطريقة مستفزة بأن أكتب ما يقال حتى يتم تنفيذه. في الواقع كنت أود في هذه اللحظة أن أستخدم التمرين اليومي عليه، ولكن لم أستطع أمام هذا الجمع من المدراء، وقمت بالمسك بالقلم وكتابة ما يقال وأنا أستشيط غيظا".

"هذا مثال جيد"، قال المدرب، "لنسمع رأي باقي المجموعة فيم كان يجب أن يتم في هذه اللحظة"

صمت تام

قال المدرب: "يجب هنا أن نتعلم كيف يمكننا الرد بدون خسائر أو بأقل الخسائر الممكنة خاصة أننا أمام مجموعة من المدراء وهو بالتأكيد لا يرغب في أن يطرد من عمله. ما رأيكم في هذا الرد:

إبتسم ابتسامة بلهاء ثم قل

"تعليمات سيادتك: اطمن يا فندم هو دخل مخي ومش حيطلع. أنا كتبته هنا خلاص (بالإشارة إلى المخ)".

إنت كدة حولت الغضب اللي جواك لغضب جواه، ودي عملية مش سهلة، محتاجة شجاعة وتمرين عشان تخرج بشكل طبيعي.

وطلب المدرب من أحد الطلاب أن يقوم بدور هذا المدير وأن يقوم طاهر بالرد عليه كما تم تعليمه، ثم يقوم بعكس الموقف. وتم تكرار هذا الموقف التمثيلي مع باقي الطلاب، وحدث أن إندمج أحد الطلاب في هذا المشهد وقام بخلع الحذاء وضرب زميله، ولكن تم احتواء المشكلة على أنها "نرفزة ملعب".



الورشة الثالثة: البرود واللامبالاة

"إن أطول الناس عمرا هم ذوي الجلد السميك"

البرود مهارة يمكن اكتسابها. إبدأ من الآن في التعود على عدم الرد السريع، إبدأ من الآن في قيادة سيارتك ببطء أمام من يكثر من "الكلاكس". إرم حسك الرفيع في أقرب زبالة وتحمل سماع شتيمتك بأذنك وحاول أن ترد بدون انفعال وبمنتهى البرود. حاول أن تبطئ من "رتمك" حتى تصيب من أمامك بالجلطة!

وقد تذكر طاهر شخص رآه ذات مرة كان يعمل في بنك وكانت ردوده في منتهى البرود بينما العميل أمامه يكاد يقفز من الغيظ، وكم تمنى أن يصير مثله.

وكتب طاهر في يومياته أنه من المعتاد أنه عندما يقوم بفتح أي باب فإنه يقوم بإمساكه حتى يقوم من بعده بالمرور وكان يعتقد أنه من الطبيعي أن يقوم من قام بالمرور سواء كان رجلا أو امرأة أن يقول له "شكرا"، ولكن في الغالب كان هذا لا يحدث وكان هذا يسبب له أزمة كبيرة، وفي مرة قرر أن لا يقوم بمسك باب المصعد، فحدث وأن رزع الباب في وجه سيدة كانت خلفه فأخذت تصرخ عليه وتسبه، وقد ضايقه هذا أكثر.

قال له المدرب "ولا يهمك الشتيمة ما بتلزقش، وكرر ما تفعله دائما، وبمرور الوقت سيعتاد الناس على ذلك".

وذكر له أحد الحاضرين في يومياته بأنه عادة ما يعطي عامل التوصيل بقشيشا وكان نادرا ما يتلقى الشكر على ذلك وكأنه حق مكتسب، ثم قرر بألا يعطي بقشيشا فكان العامل يأخذ النقود وينظر إليها وكأنها ستحدثه ثم يمضي.

قال له المدرب "في المرة القادمة أعط له النقود حسب الفاتورة فقط ثم اغلق الباب في وجهه بدون انتظار لأي رد فعل".



الورشة الرابعة: القبح

"التعود على القبح عادة تجعل من الجمال شذوذا"

عليك أن تعتاد القبح حتى يصبح جزءا من حياتك، وهذا لمصلحتك. إن محاولتك التمسك بالجمال والاشمئزاز مما تشاهده حولك لن يغير من الأمر شيئا سوى أنه سوف يجعل حياتك أكثر سوادا. تعايش مع ما تراه وتسمعه حتى تعتاده.

وقد تذكر طاهر طرفة كان أبوه يرددها له دائما، وهي أن بيتهوفن قبل أن يصيبه الصمم كان يمشي بين المنازل فساءه أن سمع صوتا نشازا في بيانو أحد هذه المنازل، فدق على الباب وقام بتقديم نفسه لهم ثم طلب أن يقوم بإصلاح البيانو بالمجان حيث أن بعض أوتاره لا تعمل بشكل جيد وهو لا يحتمل سماع هذا الصوت النشاز، وبالفعل قام بالإصلاح ولكنه فوجئ بعد عدة أيام بأن أصحاب البيت قد بذلوا جهدا كبيرا للوصول إليه طالبين منه أن يعيد البيانو كما كان حيث أن صوته أصبح قبيحا!

وقال طاهر لنفسه متهكما بأن بيتهوفن ربما استراح بعدما أصابه الصمم حتى لا يسمع النشاز مرة أخرى، بل ربما لو كان يعيش معنا الآن لتمنى أيضا العمى.

أصبح طاهر يتعمد أن لا يقوم بإخراج القمامة حتى يعتاد على رائحتها، وأصبح يستمع لأغاني المهرجانات عسى أن ينعدل حاله.

وكتب "قمت باستخدام الشنيور في الحيطة الساعة 12 مساء لتركيب شيئ غير مهم لا لشيئ سوى أني كنت أريد مضايقة الجيران الذين لم يهمهم في يوم ما مدى انزعاجي بإجراء إصلاحاتهم بعد منتصف الليل أو عند رجوعي من العمل، وسمعت صراخ أحد الجيران ولكني لم أعر لذلك اهتمامي وأكملت عملي الغير مهم"

أثنى المدرب على طاهر وأخبره أنه يسير على الطريق الصحيح.

أنهى طاهر الورش ومعها شعر أنه قد أصبح إنسانا آخر، وأنه بمقدوره الآن الرد ببذاءة على من يستحق ذلك.

ذهب إلى عمله، فوجد خطابا بالاستغناء عن خدماته، رجع إلى بيته فوجد مجموعة من القطط وقد قامت بعمل حفلة إخراج أمام شقته، فقام بإخراج هذا الصوت من فمه ونظرت له القطط باستغراب غير مصدقين ما حدث. يبدو أنه قد تعلم الدرس!
  • Like
التفاعلات: خالد الشاذلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى