محمود عادل بادنجكي - أشباح كرم الفستق

كان منظر أشجار الفستق الحلبي رائعا، بحمرتها المصفرّة على الأوراق الخضر، تعكس الأضواء كأنها مصابيح منمنة، قبل أن يخرس صوت المحرك وتغم ّالأنوار الصفراء، مسابقة العتمة الشاملة.

لينقلب المنظر مخيفا ًعلى نور البدر الساطع، فبدت الأشجار.. كأشباح تحركها أنسام الليل وتتهامس بأصوات طقطقة نضوجها وكأنها تتكلم لغة الجان..

كانوا ثلاثة في عطلة الصيف، اجتمعوا مع الأسر العديدة لأبناء وأحفاد الجدّ الكبير.. ذي اللحية البيضاء المهيبة.. في موسم الفستق.. الذي يقطفوه ويأكلوه، ويتقاسمو الغلال (مونة) يملحونها، تكفيهم، كامل أيام السنة.. ويوزعون جزءاً منها هدايا للأهل والأصدقاء.

تفرّقت الأسر للنوم في الكرم الواسع.. منهم من اتـّخذ القبّة الطينية مأوى.. ببابها الذي فرّقت الأيّام ما بين خشباته، وأضيئت داخلها شموع وضعت على الشبابيك، وفتحات النور فيها، فيرتسم خيال دخانها، أطياف حكايات على الجدران المكلـّسة، المكوّنة من أحجار الآجرّ المتكدّسة فوق بعضها لتأخذ شكل القبـّة.

بينما اختارآخرون بيت الجدّ (البيت الكبير) المطروش بالكلس.. والملوّنة أخشابه بلون الفستق الأخضر الفاتح..
بيت مكوّن من طابقين امتلآ ذكريات على جدران توزعت عليها، آيات قرآنية، وتناثرت صور بالأبيض والأسود المصفر للكعبة المشرفة، وبعض المشايخ. بينما يرقب رأس غزال حركة القاطنين بعين لا تنام، وعُلـّقت آلات الإيقاع المستديرة بأقطارها المتعددة، التي تستخدم في الأذكار، تملأ فراغات الجدران بتناسق عفوي آسر، فيكتمل المشهد برسوم ملوّنة للسلاطين (العثملية) بعماماتهم التي تناطح السحاب.

وافترشت أسر أخرى مصاطب إسمنتية.. حول البيوت والقبة..مصطب تحيطها(عرايش) الكرمة، المتداخلة مع أحواض الورد.. لتعلن خصوصية كل منها بحدودها الجغرافية الطبيعية.

اختار ثلاثة شبان من العائلات، ساحة الكرم المعبّدة التي تركن فيها السيارات. فاستلقوا على أرائك، نقلوها من البيت الكبير، ووسدوها بوسائد تزكم الأنوف برائحة (النافتالين).



أشباح كرم الفستق2
على قبة السماء تناثرت النجوم بأعداد أكثر من تلك تحتويها سماء المدينة. وفيما البدر يكمل طريقه إلى كبدها، توقف برهة خلف برجين متدرجين بشكل هرمي، أعدّا لتجمّع الحمام البريّ بأعداد كبيرة، يرتفعان لأكثر من عشرة أمتار، فبدا ارتسامهما كحارسين عملاقين لأشباح الليل!!

لم يستطيعوا النوم باكراً، كانوا يتبادلون الأحاديث على أصوات الخنافس تغنّي نشيدها الأزليّ، وهم مستلقون يراقبون النجوم، كأنهم يخطئون عدّها.. فيعيدون من جديد.

عندما بدأ (عبد الله)- أكبرهم - حديثه عن جدّهم الكبير.. اعتدلوا من استلقائهم، وأنصتوا باهتمام المدهوش، فنزلت قصّة جدّهم -المتوفى منذ أكثر من عشر سنين – و تردّده لتفقد الكرم ليلاً، كالصاعقة، ليصيخوا السمع إلى الراوي الذي لامس نجاحه في جذب اهتمامهم، من تشويق، وإثارة.. فاسترسل بالمزيد، ثمّ أقسم أن كثيرين قد شاهدوه بأمّ العين.

يطلق طاووس مذعور من طواويس الكرم الطَلقاء صيحاته بعد ما مرّ بقربه أحد كلاب الحراسة، فارتبك (حسن) و(نديم( من ذلك الصياح الذي اقترن برفرفة شديدة ونزول الطاووس من فوق بيت الجبّ كما السقوط.

لكن )عبد الله( استمرّ بسرد الدهشة، مع وقع الموسيقى التصويرية للأجواء المحيطة.

وجد (حسن) نفسه وحيداً بعدما نام المتحدّث.. على أريكته.. ليلحق به(نديم)بشخيره بعد قليل!!

ازدادت حاسة السمع قوّة لديه.. حتى بات يحسب أنفاس آلاف طيور الحمام النائمة في البرجين.
وأصوات همهمة القطط والكلاب، وحركات الغزلان في حظائرها الواسعة.. تضاف إلى طقطقة، وحفيف، صفير، ونقيق.

انتبه فجأة لوقع خطوات.. تشحط على الأرض.. يزداد صوتها بانسحاب رمل متناثر على الإسفلت تحت القدمين الشاحطتين.



أشباح كرم الفستق3
يا إلهي إنه هو!! وقع أقدامه.. يعرف هذا الصوت جيداً، إنه أثر حذائه الأحمر القاسي المصنوع من جلد الماعز.

تختلط الأصوات.. يتقدّمها ضربات قلبه.. ويبقى شحط الحذاء طاغياً!!

تتوقف الخطوات.. يسمع دقـّات الدلو الخشبي على حافة الجبّ.. مترافقا مع دوران البكرة وصدى ارتطام الدلو بالماء.. ثم صرصرة منتظمة لسحب الدلو المليء.. ورجع قطرات الماء المتساقط.

يصيخ إلى سريان الماء، وابتلاعه في بلعوم شاربه.. ليعلو في أذنه صوت محاولة تسهيل امتناع ريقه الجاف ّرعباً..

تعود الخطوات بطيئة.. متواترة، بين الواحدة والأخرى زمن خمسة أنفاس متسارعة.. حركات شخصٍ كأنّه يسير في المكان، لا تتغير مسافته اقتراباً أو ابتعاداً!!

توقـّف.. بدأ صوت دقّ المضخة اليدوية بجانب البيت الكبير.. مع احتكاك حديدها الصدء، و انسكاب الماء على الأرض.
لماذا يحتاج للمضخة.. وقد سحب الماء من الجبّ قبل قليل؟
يبدو أنه يتوضأ.. لقد اقترب الفجر.. وتمتمات دعاء الوضوء تصل إليه مبهمة.. بصوت جدّه.. لم يعد يشك في ذلك!!
أذّن الجدّ للصلاة وكأنّه يُسمع به نفسه.. ولكنّ (حسن) يستطيع تمييز أذانه جيداً.. إنه متأكد الآن!

تعاود الخطوات البطيئة.. بوتيرة أسرع هذه المرّة بفارق ثلاثة أنفاس بينها.. و.. إنّه يقترب..الصوت يقترب.. لا يستطيع فتح عينيه.. ولا إيقاظ رفيقيه.

يدنو منذ فترة طويلة.. ولا يصل.. اعتاد القلب خفقانه السريع، والأنفاس تواترها المتزايد!




أشباح كرم الفستق4
شعر بنور الفجر ينبلج.. لمحه بعين نصف مفتوحة. اقترب وقت استيقاظ (عبدالله).. الذي سيوقظ الناس بدوره لصلاة الفجر.. ثمّ ينزل إلى المدينة.. ليأتي بالزلابية.. إحدى مكوّنات الإفطارلجمع الزائرين.

تمرّ الدقائق ثقيلة.. بطيئة.. كوقع الخطوات اللامتناهي.. والقادمة من المجهول.. والمتوجّهة نحوه بلا انتهاء.. ودون إدراك لمصيرها.

توقـّع كل الاحتمالات.. لكنه سيكون رحيماً به. نعم سيكون رحيماً.. وكيف يُرعب جدّ حفيده؟ والحفيد مشتاق للقروش الجديدة المذهّبة التي كان ينثرها عليه وعلى أقرانه.. يفتقد حناجير العطر الأسطوانية الصغيرة ..التي ينتهي غطاؤها بنتوء بطول عود الثقاب ينغمس في عطر الورد الذي كان يوزّعه على الكبار والصغار.

لكنّه ربما جاء ليعاتبه على تقصيره في أداء صلواته.. أو أنـّه.. ربما كشف عن.. يا إلهي ربما كشف عن.. إنـّها ذنوبي الكثيرة.. ذنوبي الكبيرة ولا شك. يقولها مرتجفاً. هل سيعاتبه.. يعاقبه؟؟

لماذا تذكـّر تلك.. الأمور؟ لو لم يستحضرها.. ربّما لن ينتبه جدّه لكنه بتقريب ذاكرته السوداء إلى مكان وجود جدّه صاحب الكرامات.. الذي كشف الكثيرمن كذب الأولاد حين كانوا يسرقون الفستق المملح المخزّن فوق الخزانة العالية بغرفته.. أيام الشتاء.
.. بالتأكيد سوف ينتبه!!.

تزداد الخطوات اقترابا ببطء.. تدنو.. حدّ الملامسة!! يبدو كأنه توقـّف فوق رأسه..

انكمش وجه (حسن) واقترب على بعضه.. جذب الغطاء بقوّة وارتجاف فوق وجهه..
وأخيرا لمسه..!! بدأ الاحتكاك بالأريكة.. انحبست أنفاس) حسن (.. وشعر بقلبه يتوقف..
حتى سمع بقرب أذنه مواء قطتين تلعبان.. إلى جانبه!!
دقت الساعة ليستيقظ الجميع لصلاة الفجر.. شمّر عن ساعديه.. وكان أول المتوضئين..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى